أكد وسيط المملكة، حسن طارق، أن طبيعة تظلمات المواطنين شهدت تحولا جوهريا خلال السنوات الأخيرة، حيث لم تعد مقتصرة على مشاكل الخدمات الإدارية التقليدية، بل أصبحت مرتبطة بالبرامج والسياسات العمومية وفاعليتها على الأرض، وضد جيل جديد من الاختلالات.
وأوضح حسن طارق خلال درس افتتاحي بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السيوسي بالرباط، أن الخلاصات التي توصلت اليها مؤسسة الوسيط في التقرير السنوي لسنة 2024 تشير الى بروز نمط جديد من التظلمات، يرتبط بالبرامج العمومية اكثر مما يرتبط بالادارة التقليدية والخدمات العامة.
وخلال اللقاء الذي نظم بدعوة من شعبة القانون العام، أوضح طارق، أن تقرير مؤسسة الوسيط لسنة 2024 كشف أن عددا كبيرا من التظلمات الفردية كان مرتبطا ببرنامج “فرصة”، وهو برنامج حكومي أُطلق في مارس 2022 لدعم الشباب. وتلقى البرنامج تظلمين جماعيين قبل فتح ملفات فردية بلغ عددها أكثر من 590 ملفا، ما يعكس تنوع الحالات واختلاف الاحتياجات بين المستفيدين، مؤكدا أن هذه التظلمات لم تكن موجهة ضد إدارة بعينها، بل ضد تصميم البرنامج وطريقة تنفيذه، ما يعكس انتقال الطلب الاجتماعي من مستوى الخدمات إلى مستوى السياسات.
وأشار طارق في كلمة ألقاها بحضور طلبة وأساتذة زملاء في شعبتي القانون العام والقانون الخاص، إلى أن الوساطة لم تعد مجرد أداة لحل نزاعات فردية، بل أصبحت في مواجهة برامج وسياسات عامة، وفي قلب ديناميات احتجاجية واجتماعية جديدة، مثل ما شهدته قضية طلبة كليات الطب والصيدلة، التي أظهرت تزايد الاحتجاجات الجماعية وارتباطها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وفاعلية السياسات العمومية.
وأكد وسيط المملكة أن المواطن أصبح في قلب السياسات العمومية، حيث تمثل لقاءاته مع الإدارة لحظات حساسة، تحمل تمثلات الطلب الاجتماعي المكثف مقابل قدرة الإدارة على تقديم حلول محدودة الموارد، موضحا أن هذا التوتر يعكس التحولات في العلاقة بين الاحتجاج والسياسات العمومية، حيث أصبحت الاحتجاجات جزءا من عملية صياغة السياسات وتحديد أولوياتها.
وأوضح طارق أن هناك عدة عوامل لتفسير هذا التحول، منها الانفجار في الطلب الاجتماعي الناتج عن ديموغرافيا الشباب والحاجة المتزايدة للخدمات، والانفتاح السياسي الذي يتيح هامشا أكبر للتعبير عن الاحتجاج، وتحولات الفضاء العمومي التي جعلت الوصول إليه أكثر سهولة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرة هذه الوسائط على بناء القضايا العامة وتحويلها إلى أجندة سياسية.
وأضاف أن الاحتجاجات في المغرب اليوم لم تعد مقتصرة على خلفيات حزبية أو نقابية، بل تشمل مواطنين من مختلف الخلفيات، مع تنوع أشكال التعبئة، من الاعتصامات والمسيرات إلى الإضرابات عن الطعام، بما يعكس دينامية احتجاجية مستمرة منذ التسعينات.
وأشار طارق إلى أن الاحتجاجات، رغم كونها أداة للمساءلة، قد تحمل مخاطر على صياغة السياسات، منها: الإسراع في اتخاذ قرارات غير متوازنة، تحويل السياسات من العمومية إلى الفئوية، أو صياغة سياسات تحابي الفئات الأكثر قدرة على الاحتجاج، ما يطرح تحديات عدالة توزيع الموارد وحماية حقوق الفئات الأقل صوتا في الفضاء العام.
وشدد طارق على أن الوساطة المؤسساتية في هذا السياق يجب أن تتطور لتواكب هذه الديناميات، من خلال تعزيز قدرات المجلس الوطني لحقوق الإنسان واللجان الجهوية، والنهوض بثقافة الوساطة وتوسيع امتداداتها الترابية، وتثمين المبادرات المدنية الناجحة، كحلقة وصل بين الفعل المؤسساتي والمجتمع المدني.
وأوضح طارق أن الهدف هو خلق دينامية متكاملة تربط بين الوساطة المؤسساتية والمجتمعية، لتكون أداة فاعلة في تسيير التوترات الحقوقية والمرفقية وضمان التفاعل الإيجابي بين المواطنين والسياسات العمومية، مؤكدا أن هذه الدينامية تسمح بدمج الديمقراطية الاحتجاجية ضمن الفعل المؤسساتي، بما يحافظ على التوازن بين مطالب المواطنين والمصلحة العامة.
كما نوه طارق بالدور التكاملي بين الفضاء الجامعي والمجتمع المدني في تعزيز ثقافة الوساطة، مشددا على أن تطوير الوساطة لا يقتصر على معالجة النزاعات، بل يشمل تيسير مشاركة المواطنين في مراقبة البرامج والسياسات العمومية، وتحويل الاحتجاج إلى أداة بنّاءة لتعزيز العدالة والمساءلة.
المصدر: العمق المغربي
