في وقت تواصل فيه صناعة العملات المشفّرة اكتساب الشرعية في الأسواق العالمية، كُشف النقاب عن شبكة ضخمة من الأموال المشبوهة تتدفق عبر كبرى منصات التداول الرقمية، في ما يشكل إحدى أخطر التحديات التي تواجه النظام المالي العالمي خلال العقد الجاري.
تحقيق استقصائي موسع أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين و36 جهة إعلامية حول العالم، توصّل إلى أن ما لا يقل عن 28 مليار دولار من أموال الجريمة المنظمة، بما فيها الاحتيال الإلكتروني والقرصنة والابتزاز، تم تحويلها إلى منصات تداول العملات المشفّرة خلال العامين الماضيين.
وفق التحليل الذي استند إلى بيانات من شركات تتبع مثل Chainalysis وChainArgos، وإفادات من ضحايا ومسؤولين سابقين في وكالات أمنية، فإن هذه الأموال وصلت إلى منصات كبرى بينها Binance وOKX وBybit وHTX، إما عبر تحويلات مباشرة، أو عبر شبكات معقّدة من المحافظ الوسيطة والخدمات التي تتيح تحويل العملات الرقمية إلى نقد.
تبيّن أن منصة Binance، أكبر بورصة للعملات الرقمية عالميًا، استلمت أكثر من 400 مليون دولار من مجموعة Huione الكمبودية التي وُصفت من قبل وزارة الخزانة الأمريكية بأنها “عقدة مركزية في عمليات الاحتيال السيبراني وغسيل الأموال عبر آسيا”، فضلًا عن 900 مليون دولار مرتبطة بمنصة استخدمها قراصنة من كوريا الشمالية لتبييض أموال مسروقة.
ولم تكن Binance وحدها. منصة OKX التي وقّعت تسوية بقيمة 504 ملايين دولار مع الحكومة الأمريكية مطلع العام الحالي، استقبلت 220 مليون دولار من المجموعة نفسها بعد هذه التسوية، ما يطرح تساؤلات حول فعالية هذه الإجراءات العقابية، وحجم الامتثال الفعلي من قبل البورصات.
أشار التحقيق إلى أن المبالغ المذكورة ليست سوى جزء من الصورة الكاملة. إذ إن غالبية الحسابات المرتبطة بالنشاط الإجرامي لا تُكشف هويتها علنًا، وتظل حركة الأموال داخل هذه المنصات معقدة التتبع. لكنّ التحليل استخدم السجلات العلنية للمحافظ (blockchain)، وربطها بمحافظ أعلنتها جهات مشبوهة ضمن تقاريرها المالية، ما مكّن من تتبع آلاف العمليات بدقة.
رغم تعهّدات البورصات بتطوير أنظمتها الداخلية وتعزيز إجراءات “اعرف عميلك”، إلا أن فجوة الثقة تتّسع. إذ أفاد جون غريفيث، أستاذ التمويل بجامعة تكساس، بأن “البورصات لديها حافز تجاري مباشر لتجاهل هذه الأنشطة، فالمعاملات الإجرامية تولّد رسوم تداول، وكلما زادت هذه العمليات، زادت الأرباح”.
هذا التواطؤ غير المعلن يأخذ أبعادًا سياسية، خصوصًا في ظل إدارة ترامب الثانية، التي أنهت في أبريل الماضي وحدة إنفاذ مختصة بجرائم العملات الرقمية داخل وزارة العدل. وبررت الإدارة القرار بالتركيز على “المجرمين الأساسيين” دون ملاحقة “المنصات التي يستخدمونها”، في خطوة وصفها خبراء بأنها تسليم فعلي للفضاء الرقمي لشبكات الجريمة العابرة للحدود.
أشار التحقيق أيضًا إلى أن شركة World Liberty Financial، التي أسسها ترامب مع أبنائه عام 2024، وقّعت اتفاقًا مع Binance بقيمة ملياري دولار، في حين أصدر الرئيس لاحقًا عفوًا رئاسيًا عن مؤسس المنصة، تشانغبينغ زهاو، الذي قضى أربعة أشهر في السجن بعد إدانته بتهم تتعلق بغسيل الأموال.
لا تتوقف الأزمة عند حدود التجاوزات التنظيمية، بل تطال حياة الأفراد. فقد خسر مواطن أمريكي من مينيسوتا 1.5 مليون دولار بعد الوقوع في فخ عملية احتيال استثماري تُعرف بـ”ذبح الخنازير”، وهي إحدى أكثر أساليب الاحتيال انتشارًا في آسيا، وتبدأ بعلاقة عاطفية وهمية تنتهي باستدراج الضحية للاستثمار في منصة زائفة. تحليل لاحق أجرته شركة تعقب خاصة بيّن أن نصف هذا المبلغ وصل إلى منصات Binance وOKX.
في حالة أخرى، امرأة كندية تدعى كاريسا ويبر (58 عامًا)، فقدت كامل مدخراتها التي بلغت 25,000 دولار، بعد أن وقعت في فخ مماثل. لم تتّخذ المنصات المعنية إجراءات حاسمة إلا بعد أشهر من تحويل الأموال، رغم مراقبتها المسبقة لحسابات وصفتها بـ”المشبوهة”.
المعضلة الكبرى، كما يكشف التحقيق، تتمثل في منظومة “مكاتب تحويل العملات الرقمية إلى نقد”، وهي مكاتب غالبًا ما تقع في مؤخرات متاجر أو مقاهٍ في كييف أو دبي أو هونغ كونغ، تتيح لأي شخص تحويل العملات الرقمية إلى عملات تقليدية دون تحقق فعلي من الهوية. فقط في هونغ كونغ، عالجت هذه المكاتب أكثر من 2.5 مليار دولار العام الماضي. وتلقت منصات كبرى ما يزيد عن 531 مليون دولار من هذه المكاتب، وفق بيانات شركة Crystal Intelligence.
قام صحافيو التحقيق بعمليات اختبار ميدانية، بينها إرسال 1,200 دولار عبر Telegram إلى مكتب صغير في كييف، واستلام المبلغ نقدًا خلال دقائق دون إيصال أو التحقق من الهوية، ما يُظهر هشاشة الضوابط، وسهولة تحوّل هذه الشبكات إلى بوابة لتبييض الأموال وتغذية الاقتصاد الموازي.
ويرى التحقيق أنه وراء هذه الأرقام والحقائق، يبدو أن صناعة العملات المشفّرة تقف عند مفترق طرق. فمن جهة، تتوسع بسرعة كجزء من النظام المالي العالمي، بدعم سياسي واضح من البيت الأبيض، ومن جهة أخرى، تتعاظم مسؤولياتها في محاربة الجريمة المالية، في ظل غياب ردع قانوني حقيقي.
المصدر: هسبريس
