في سردية الحرب الأهلية والوجع المزدوج

خالد فضل

عند اشتداد أوار حرب الجهاد الإسلامي ضد الجيش الشعبي/ الحركة الشعبية لتحرير السودان في مطلع التسعينات من القرن الماضي، وسيادة أدبيات خطاب الكراهية ضد الجنوبيين عموماً، كان الإعلام الحكومي رائد تلك الحملات، إذ لم تكن مواقع ومنصات الميديا الرقمية الحديثة قد سادت بعد.

كان برنامج ساحات الفداء يعبّر عن دوافع وتوجهات السلطة الإسلامية الحاكمة، الخطاب العدائي ينطوي على مؤشرات عرقية وسياسية ودينية وعنصرية وجهوية والانقسام يتغلغل أفقيا بين أفراد الشعب، كنا في جامعة جوبا حينذاك في مقرها الذي نزحت إليه جنوب الخرطوم. وبالطبع كانت الجامعة أكبر مرفق يعيش فيه الشماليون والجنوبيون بأعداد متقاربة تقريباً، تجمعهم قاعات الدرس والمختبرات وداخليات السكن وغرفة الطعام، كانت شاشة التلفزيون تجمع الشماليين والجنوبيين ليشاهدوا معاً تلك الأدبيات المفعمة بخطاب الكراهية والتحقير لجانب والتمجيد والفخر والزهو بجانب آخر.

مناظر منطقة محروقة وجثث متناثرة وعتاد معطوب على خلفية أهازيج النصر وشعارات الجهاد، وفرحة التفوق ونشوة الانتقام وما يفترض أن تثيره من فرح وابتهاج في جمهرة المشاهدين من الشماليين عموماً والمسلمين منهم على وجه الخصوص، كانت تقابله فرضية الشعور بالهزيمة، واتساع الهوة وتباعد المسافات مختلطاً بمشاعر الحزن والوجع والألم لدى المشاهدين الجنوبيين، هكذا تتسع الفجوة الشعورية بين من يفترض أنهم أبناء الوطن الواحد الموحد الذي يقتل بعض أهله ذوداً عن شعار الوحدة الوطنية باعتبارها ثابتاً من ثوابت الأمة كما تقول أدبيات الإسلاميين آنذاك.

كان الحرج سيد الموقف لدى من أوتي عقلاً يحسن استخدامه للتفكير وسط الشماليين، ومن بين جنبيه حس إنساني رحيم؛ يلتفت الفرد منهم إلى صديقه وزميله وابن دفعته من أبناء الجنوب وهو يشاركه الآن الجلوس أمام شاشة تلفاز جمهورية السودان، فتكون ساحة الفداء هي قرية ذلك الصديق، ويكون الهلكى كما يقال هم إخوته وأهله ويكون الدمار والحريق في دياره، ومطلوب منه أن يسير يسير خلف البشير.. وأن تكون الوحدة الوطنية ثابته الذي عنه لا يحيد!!.

عندها تختلط الفرجة بالألم، تبدو أهازيج النصر والشهادة بلا طعم، يبدو الوطن حلم يتبدّد فما الوطن إن لم يكن هؤلاء الصحاب. وما الوحدة الوطنية إن لم يكن توحد الشعور بالانتماء، الوطن ليس مؤسسات كما يزعمون بل هو الناس الذين يصنعون المؤسسات وإليها ينتسبون بفخر ومحبة ورضا، عندما يصبح الجندي في الجيش ليس عدواً لبعض أبناء بلده على الدوام، والعامل في المصنع وأستاذ الجامعة المرموق وموظف البنك ودهاقنة القانون ومنصات القضاء كلهم عدول، تلك هي الدولة وتلك هي المؤسسات والتلفاز والإذاعة والإعلام لا تذيع الندوب وتفتق الجروح وتسبب الحرج والوجع وتزيد ضغن القلوب. تلك هي الدولة وذاك هو الوطن سادتي وسيدات.

النصر على الأعداء يوجب الفرح الحقيقي فمن هم الأعداء؟ أهذه الشابة الأبنوسية  الرقيقة عذبة اللكنة ، أهذا الفتى واضح القسمات نضير الضحكات؟ أتلك الوالدة وهذا الجد ومثلهم الرفيق؟ الجار والقريب.

تكرّ الأيام كرّتها، والجنوب قد غادر، لم تصمد ادعاءات ثابت الوحدة الوطنية وزيف السرديات، وبقيت المرارات، واستمر قصر النظر، سوء التدبير وخطل السياسات ومناهج التفكير، فقد طال مكث الإسلاميين في السلطة وتطاول أمدهم وازدادت خطاياهم وأوزارهم في حق الإنسان والوطن، وشمخت ازدواجية المعايير وشخص اهتزاز القيم وتجاذب الهوية واضطراب النفوس وضمور العقول، فنرى قرنق عليه الرحمة يصور في أجهزة الإعلام وأغلفة الكتب بأنياب تقطر دماً، ثم هو نفسه قرنق الوحدوي صانع السلام والذي اغتالته أجهزة المخابرات لتلك الأسباب، ثم هو يوم وفاته واشتعال غضب الجنوبيين في الخرطوم دليل على الحقد الدفين فتسمى تلك الاضطرابات الأمنية المتعمدة بأحداث يوم الاثنين الأسود فيما ردة فعل الشماليين والانتهاكات الواسعة ضد الجنوبيين توصف بزهو بالثلاثاء المجيدة؛ هكذا نشر منبر السلام العادل وصحيفة الإنتباهة بقيادة رئيسها المرحوم الطيب مصطفى وذاك المنبر وصحيفته من إبداعات الإسلاميين، والأتباع والمناصرون هم مستعربة الشمال النيلي وبعض الوسط القريب.

كل هذه المجاميع التي تساق كالقطيع هي التي تجاهد ضد قرنق وأهله، ثمّ هي تصوره ذئباً متوحشاً بأنياب ثم ما فتئ أن صار رمزاً للوحدة والسلام بينما قومه يفور في دواخلهم الحقد الدفين، هكذا يساق القطيع وحاديه دوماً جماعة الإسلاميين.

نشب الصراع السياسي المسلح في دارفور، فإذا سردية الحرب وخطاب الكراهية يطال مرّة أخرى الضحايا، ويمجّد الجلادين، فأفراد حركات الكفاح المسلّح؛ هم الخونة العملاء ربائب الصهيونية وأذناب إسرائيل ومخالب الغرب الكافر، هكذا ضربة لازب تحوّلت المطالب المشروعة بالتنمية والخدمات وعدالة توزيع الثروات والمشاركة الفعلية في السلطة والقرار إلى أدبيات ذمّ المارقين، وحملات لتأديب المتمردين، وجنجويد تسبقه طلعات الأنتنوف بالبراميل المفخخة لدك حواضن المرتزقة التشاديين. فلم يعد الفور ورثة السلاطين، ولا المساليت حفظة القرآن الميامين ولا الزغاوة فرسان الوغى المجاهدين، باتوا في سردية الانتقام، من الضالين المغضوب عليهم الذين ينزل بهم عقاب العنصريين المستبدين وجنجويدهم القساة الباطشين. ويزداد الانقسام الوطني، تحفر هوة أعمق وسط مجتمعات السودانيين، ويتم نفي صفة المواطنة وسحب الجنسية فوراً من كل المناضلين. وما تزال مضمضة الشفاه تلوك بفتور ونفاق حدوتة الوحدة الوطنية، وسكين الجزارين تمزق في اللحمة الوطنية إرباً إرباً، ولا يعدم نشيج الدم وحريق القرى مؤيدين هم في الغالب نفس من أيّد قبل قليل نزيف الجنوب وسير سير يا البشير وأحمد هرون وعبد الرحيم.. نعم يمنع إقامة صيوان العزاء في مصرع خليل إبراهيم في ضاحية عد حسين، ويتبارى المنافقون في مدح شقيقه جبريل!! اغتصاب المرأة الدارفورية شرف لها إذا كان المغتصب من جهة المغتصبين للبلاد كلها، وجريمة وإرهاب عندما يرتكبها عنصر في الدعم السريع الآن، وقائل ذلك الكلام كان سيكون عنصرياً حاقداً مذموماً لو اسمه علي الحاج أما قائله الراحل الترابي فلا تعليق بل صمت القبور عن الاتهام الشنيع ومع ذلك سيحررون دارفور من الجنجويد أو كما قال.

ثم هاهي حرب 15 أبريل ووقائعها مما نعيش، بين عشية وضحاها تغيّرت سردية التضليل، من أقصى المؤشر إلى عكسه بمائة وثمانين درجة دون تدرج. صار الأشاوس خونة وعملاء ومرتزقة، ونال الخونة العملاء المرتزقة السابقين درجات الرفعة والسمو وجوهر الوطنية والتقدير، نفس المجموعات التي أيّدت من قبل بتر الجنوب وحرق دارفور هاهي الآن تزيد لهيب النار، إنها حالة انكماش تزداد بها الأرض ضيقاً، والشعب فرقة وشتات، ويحدثونك بنفس اللغة الفاترة البائرة عن توحيد ووحدة البلاد والمؤسسات.

لابد هنا من الاعتراف بتفوق تنظيم الإسلاميين وقدراتهم الهائلة في جرّ مجموعات كبيرة في مناطق الشمال النيلي والوسط بصورة خاصة إلى أي أطروحة يقدمونها بغطاء ديني أحياناً وغطاء وطني أحياناً أخرى وفي كل الأحوال يخاطبون الهواجس العنصرية والعرقية لدى هذه المجموعات المستعربة، مستغلين طبيعة تناقض الهوية وازدواجها الذي يعاني منه معظم تلك المجموعات.

ومع إجادتهم دغدغة المشاعر الدينية نلحظ انخراط مجموعات واسعة من مواطني دارفور ذوي الأصول غير العربية في تنظيمهم ومشاركتهم الواضحة في حروب الجهاد ضد الجنوبيين والنوبة في الجبال. بل استطاعوا بخطابهم الدعائي المحكم شيطنة الآخرين في كل مرحلة من مراحل سيطرتهم المستمرة لأكثر من ثلاثة عقود. وبدءاً من السيدين الميرغني والمهدي وكل قوى التجمع الوطني الديمقراطي وصولاً إلى تحالفي تأسيس وصمود حالياً، ومن قبلهما قوى الثورة ولجان المقاومة وتجمع المهنيين.. إلخ. مستغلين في كل مرحلة طبيعة التكوينات التعددية واختلافاتها الطبيعية.

لم يتمكن أغلبية الشعب من التروي في فحص المشروعات السياسية المطروحة من جانب هذه القوى بسبب الغبار الكثيف الذي يثيره الكيزان حول الأشخاص بصورة متعمدة، لذلك نلحظ بغير عناء تغليب التركيز على الأفراد وشيطنتهم، فالميرغني والمرحوم الصادق في اجتماعات أسمرا مثلاً توضع على مناضدهم عبوات الخمور وقرنق يرسم بأنياب، ولجان المقاومة وشباب الثورة مخمورين ومهلوسين يتعاطون المخدرات ويمارسون الزنا، وهكذا تنسيقية تقدّم والقحاطة هم خالد سلك وياسر عرمان، وتأسيس هو حميدتي وأبولولو.

لا يريدون للناس أبداً أن يتوقفوا قليلاً ويهدأوا لينظروا أي الأطروحات أنضج وأقوم سبيلاً، فذاك مما يبطل سحر الساحر إذا وعت العقول.

وقد كشفت يوميات هذه الحرب الكثير مما يستوجب التوقف عنده وفحصه مليّاً، فقبل اندفاع شباب الوسط والشمال النيلي للاستنفار الكيزاني هل لهم السؤال البدهي ثم ماذا بعد؟ هل يطرح الكيزان مشروع التحول المدني الديمقراطي وشعارات حرية سلام وعدالة؟ ما هي رؤيتهم للوحدة الوطنية التي كانت في بداية التسعينات من ثوابت الأمة وفي 2011م تمخض الثابت عن استقلال بلد جديد. ثم الأخطر من ذلك، تعبئة الشباب وتضليلهم بفرية الجهاد ضد مواطنين مسلمين آخرين، وهو مما فطن إليه ونبه هيئات ومجموعات إسلامية دولية رفضت تلك الدعوات الجهادية ووصفت الصراع بطبيعته السياسية الواضحة، فحتى متى يظل الناس في الوسط والشمال النيلي تحديداً أسرى أوهام هذه الفئة من المضللين العنصريين  تجار الدين، أسرى لفتاوى شيخ الضلاليين والوصف مما أطلقه البرهان نفسه على عبد الحي يوسف قبل عام تقريباً. أفلا يتدبر الناس ولا يعتبرون!!.

***التحية والتقدير للأستاذة سامية الهاشمي المحامية والمدافعة الأصيلة عن حقوق الإنسان، ونيلها جائزة فرنسا المانيا لهذا العام ضمن آخرين تأكيد على جدارة سعيها وجهدها المرموق، ثم التحية لأستاذنا الصديق الزميل الجميل فيصل محمد صالح بنيله جائزة التميز مدى الحياة المقدمة من منظمة الإيغاد، ففيصل أرفع من كل تكريم، وما الجائزة سوى اعتراف ضئيل بقامة إسهاماته المتواصلة كإعلامي حاذق ومهني قدير وفوق هذا وذاك إنسان سامٍ ودود.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.