حلّت جيسيكا موثوني جاكينيا، السفيرة الكينية المعتمدة لدى الرباط، بمدينة العيون على رأس وفد اقتصادي وازن يضم رجال أعمال ومستثمرين من نيروبي، في خطوة غير مسبوقة تجسد تحولاً عميقاً في مقاربة كينيا لملف الصحراء المغربية ولعلاقاتها مع المملكة. ويأتي هذا التطور ثمرةً للرؤية المتبصرة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الذي وضع التعاون الإفريقيالإفريقي في صلب السياسة الخارجية للمغرب، ورسّخ الأقاليم الجنوبية كمركز استراتيجي صاعد للاستثمار والتنمية.

كما يعكس هذا الحضور الدبلوماسي والاقتصادي الرفيع الإرادة السياسية القوية لفخامة رئيس جمهورية كينيا وليام روتو، الذي قاد بلاده نحو مقاربة أكثر واقعية وبراغماتية في التعاطي مع ملف الصحراء المغربية، بما ينسجم مع التحولات الجيوسياسية التي تعرفها القارة. وقد شكّلت زيارة السفيرة إشارة واضحة إلى تنامي الوعي الإفريقي بأهمية الأقاليم الجنوبية ومكانتها في الشراكات جنوبجنوب، فيما جاءت الزيارة في لحظة سياسية دقيقة تعكس مفعول القرار الأممي 2797 وتزايد القناعة الدولية بواقعية ومصداقية الطرح المغربي، الأمر الذي يجعل من هذه الخطوة حدثاً دبلوماسياً بارزاً يتجاوز الطابع البروتوكولي إلى دلالات جيوسياسية عميقة.

وقد حظي الوفد الكيني باستقبال رسمي رفيع من قبل والي جهة العيون الساقية الحمراء الدكتور عبد السلام بكرات، الذي قدم عرضاً مفصلاً حول الدينامية التنموية الكبيرة التي تعرفها الجهة خلال السنوات الأخيرة، سواء على صعيد البنيات التحتية أو المنظومات الاستثمارية الحديثة أو المشاريع الاقتصادية والاجتماعية المهيكلة. كما عقدت السفيرة سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين محليين وممثلي مؤسسات اقتصادية ومقاولات كبرى، في إطار بحث فرص الشراكة وتبادل الخبرات واستطلاع مجالات الاستثمار التي توفرها الجهة في قطاعات اللوجستيك، الطاقة المتجددة، الفلاحة البحرية، الصناعة، والخدمات المرتبطة بالاقتصاد الأزرق. هذه اللقاءات، التي تمت في جو من الانفتاح والاهتمام المشترك، أبرزت رغبة واضحة لدى الطرفين في إرساء تعاون اقتصادي ثابت يمتد على المدى المتوسط والبعيد.

وتأتي زيارة السفيرة الكينية في سياق تحولات متسارعة تشهدها العلاقات المغربيةالكينية منذ القرار التاريخي للرئيس وليام روتو في سبتمبر 2022 بسحب اعتراف بلاده بالكيان الانفصالي، وهو القرار الذي أنهى مرحلة طويلة من سوء الفهم السياسي وأعاد رسم معالم علاقة جديدة مبنية على الواقعية والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. وقد تعزز هذا المسار الإيجابي بزيارة رئيس الوزراء الكيني موساليا مودافادي إلى المغرب شهر مايو 2025، وهي الزيارة التي انتهت بتدشين أول سفارة كينية بالرباط، خطوة حملت رمزية سياسية كبيرة أكدت ارتفاع منسوب الثقة الدبلوماسية بين البلدين. واليوم تأتي زيارة السفيرة جيسيكا موثوني جاكينيا إلى العيون لتضيف لبنة جديدة في هذا البناء المتين، مجسدة انتقال العلاقات الثنائية من مستوى سياسي إلى مستوى تنموي واستثماري يعكس نضج العلاقة وعمق التفاهمات الجديدة بين البلدين.

وقد حرصت السفيرة خلال تصريحاتها ولقاءاتها على التأكيد بأن كينيا تنظر إلى التعاون مع المغرب باعتباره فرصة حقيقية لتعزيز القدرات الاقتصادية المشتركة وتوسيع مجالات الشراكة خارج الإطار التقليدي للدبلوماسية الرسمية. وأبرزت أن بلادها تتابع باهتمام بالغ التجربة المغربية في مجال التنمية الترابية، خاصة بالأقاليم الجنوبية، وترى فيها نموذجاً ناجحاً يمكن الاستفادة منه وتكييفه في بيئات إفريقية أخرى. كما شددت على أن هذه الزيارة تمثل مقدمة لسلسلة من المشاريع المشتركة التي ستعرفها المرحلة المقبلة، مع الإشارة إلى أن كينيا تسعى إلى توسيع حضورها الاستثماري في المنطقة عبر شركاتها ومؤسساتها الاقتصادية، بما ينسجم مع استراتيجيتها لتعزيز موقعها داخل الفضاء الإفريقي.

لا يمكن فصل هذه الزيارة عن السياق السياسي الإقليمي الذي تشهده القارة، حيث تتجه العديد من الدول الإفريقية نحو تبني مقاربات براغماتية في علاقاتها الخارجية، قائمة على المصالح الاقتصادية المباشرة وعلى منطق الشراكات ذات المردودية. وفي هذا الإطار، تبدو كينيا في مرحلة إعادة تموقع جيوسياسي يراعي التوازنات الجديدة في شرق وغرب القارة، مع إدراك متزايد للدور المتقدم الذي يلعبه المغرب في القارة الإفريقية باعتباره قوة استثمارية وتنموية صاعدة. ومن هنا فإن زيارة السفيرة ليست مجرد نشاط دبلوماسي محدود، بل هي تعبير صريح عن انتقال نيروبي من مرحلة الدعم الرمزي للبوليساريو إلى مرحلة الاعتراف الواقعي بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، من خلال التعامل المباشر مع المؤسسات المحلية والانخراط في مشاريع اقتصادية وتنموية بالمنطقة.

ويُجمع المراقبون على أن الحضور الكيني بهذا الثقل في مدينة العيون يحمل رسالة سياسية واضحة مفادها أن المغرب استطاع عبر العمل الدبلوماسي الهادئ والمتواصل، وعبر قوة النموذج التنموي بالأقاليم الجنوبية، أن يقنع شركاءه الأفارقة بواقعية مقاربته ونجاعة مشروعه التنموي. كما يبرز أن الرهان الحقيقي اليوم لم يعد في الشعارات السياسية بل في المشاريع الاقتصادية التي تخلق فرص الشغل وتبني جسور التعاون وتحرك عجلة الاستثمار. ومن هنا، فإن خطوة السفيرة جاكينيا تمثل تحولاً نوعياً في مواقف نيروبي، وتؤكد أن كينيا لم تعد حبيسة الرؤية التقليدية التي ارتبطت بمرحلة تاريخية سابقة، بل أصبحت اليوم أكثر قرباً من المغرب وأكثر تفهماً لخياراته.

وتشير كل المؤشرات إلى أن المستقبل القريب سيحمل زخماً أكبر في العلاقات المغربيةالكينية، بالنظر إلى الإرادة السياسية المعلنة من الطرفين وإلى الحماس الملحوظ لدى الفاعلين الاقتصاديين لدخول سوق جديدة تعد من الأكثر دينامية في شمال وغرب إفريقيا. كما أن التقاء المصالح بين الرباط ونيروبي في مجالات الأمن الغذائي، الطاقات المتجددة، اللوجستيك، وتطوير البنيات التحتية يجعل من هذه العلاقة نموذجاً واعداً لشراكات جنوبجنوب ذات أفق استراتيجي طويل. في هذا السياق، يمكن أن تتحول زيارة السفيرة إلى محطة مؤسسة لمرحلة جديدة قوامها الفعل الاقتصادي المشترك بدل الخطابات الدبلوماسية التقليدية.

إن زيارة جيسيكا موثوني جاكينيا، بما حملته من رسائل سياسية واقتصادية قوية، وبما رافقها من حرص واضح على تعزيز الروابط الثنائية، تؤكد أن المغرب يسير بثبات نحو ترسيخ موقعه كشريك موثوق وفاعل داخل القارة الإفريقية. كما تبرز في المقابل أن كينيا تعي تماماً أهمية التعاون مع المغرب، وأنها جاهزة لفتح صفحة جديدة قوامها الشراكات المتوازنة والمشاريع المشتركة والمصالح المتبادلة. وتظل هذه الزيارة النوعية محطة مفصلية في مسار العلاقات بين البلدين، ودليلاً على أن الدبلوماسية التنموية قادرة على اختراق الجمود القديم وخلق مسارات جديدة تؤسس لمرحلة عنوانها الواقعية والبراغماتية والمكاسب المشتركة بين الشعوب والدول.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.