أمد/ في ظل حالة غير مسبوقة من الغموض والضبابية، وغياب بشائر الفجر ونسائم الشروق، تبدو حركة حماس قيادةً وكوادر داخل فلسطين وخارجها أسيرة سؤال واحد ملحّ: ما هو الخيار الوطني الأكثر واقعية للخروج من النفق؟
غير أن هذا النفق، كما يراه الفلسطينيون اليوم، يبدو بلا نهاية، أو كأن نهايته تفضي إلى نفق آخر أكثر عتمة وقسوة.
ليس هذا سؤال الحركة وحدها، بل سؤال شعبٍ مشتّتٍ بين الحرب والحصار، تتقاذفه موجات متلاطمة من السياسات الدولية والاصطفافات الإقليمية وخصومات الإخوة التي تكسر ما تبقى من مجاديف الأمل. فقد بات الجميع يشعر أننا أمام مشهد يحتاج إلى قدر من العقلانية السياسية لمواجهة هذه اللحظة التاريخية غير المسبوقة.
المشهد الدولي… وتموضعات “اليوم التالي”
منذ أشهر، تتابع حماس بدقة ما يطرح في المحافل الدولية بشأن مستقبل الحرب على غزة، والمقترحات المتعلقة بترتيبات “اليوم التالي”. وبينما تحاول بعض الأطراف الإيحاء بأن كل شيء قابل للنقاش، تبقى مكانة الحركة في هذه الترتيبات هي العقدة الكبرى، خصوصًا في ظل إصرار قوى دولية على إقصائها، أو على الأقل تقييد حضورها وإعادة تعريف دورها.
وفي المقابل، هناك أطراف أخرى تدعو إلى احتواء الحركة ضمن صيغة سياسية وطنية تتيح لها المشاركة كحزب، أو تيار سياسي، بما يحفظ لها حضورًا في المعادلة الفلسطينية. لكن تعدد القراءات وتناقضها جعل من مآلات اللحظة أشبه ببحّار عصفت به الرياح في “بحر الظلمات”، فانعدمت الرؤية وتعطلت البوصلة، وازدادت المخاوف من أن يأتي الغد بما هو أعقد وأشد وطأة.
من “الإحباط التكتيكي” إلى “الاستيئاس الاستراتيجي”
قد تكون هذه المرحلة من أكثر اللحظات شدة في قسوتها على الفلسطينيين، حيث بلغ منسوب المظلومية مستويات غير مسبوقة، ومعها تصاعد شعور حقيقي بما يمكن وصفه بـ “الاستيئاس الاستراتيجي”.
فالضغوط تأتي من ثلاثية قاتلة:
تآمر غربي يرى في غزة عبئًا يجب التخلص منه،
وتواطؤ إقليمي يفضّل الاصطفاف مع الأقوى،
ومناكفات وطنية تزيد العبء على شعبٍ أنهكته الأزمات.
وفي ظل هذا المشهد، تبدو الخيارات ضيقة حدّ الاختناق. ومع ذلك، يبقى السؤال الأكبر أمام حماس هو: كيف يمكن الحفاظ على جوهر المشروع الوطني دون الاستنزاف حتى النهاية؟
رسالة واقعية إلى قيادة الحركة
إن الرسالة التي يجب أن تُقال بوضوح لإخواننا في حركة حماس هي:
لا تنتظروا الكثير من هذا العالم.
لكن… يمكن البناء على “القليل” الممكن، شريطة أن يُعاد التفكير خارج الصندوق، وأن تُقرأ اللحظة بواقعية لا تخضع للانفعال أو ضغط الشارع أو مزاج القوى المتنافسة.
الفكرة لا تموت، لكنها تحتاج إلى بيئة حاضنة كي تنبت من جديد. وإذا كانت الظروف الحالية لا تسمح بتكرار مراحل سابقة من العمل السياسي أو العسكري، فإن إعادة صياغة الدور الوطني للحركة قد تكون الخطوة الأكثر ارتباطًا بمصالح الشعب وأولوياته.
التحولات الكبرى تبدأ من اللحظات الصعبة
تجارب الشعوب الأخرى تثبت أن النفق مهما طال ليس قدرًا محتومًا:
جنوب إفريقيا استطاعت إنهاء نظام الأبارتهايد بعد أن انتقل المؤتمر الوطني الأفريقي من العمل المقاوم إلى مسار سياسي مدروس، دون التخلي عن جوهر نضاله.
إيرلندا الشمالية شهدت تحول الجيش الجمهوري الإيرلندي من البندقية إلى السياسة عبر “شين فين”، محققًا مكاسب لم يحققها بالعمل المسلح.
فيتنام تحولت من بلد أنهكته الحروب إلى واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا حين أعادت تعريف أدوات قوتها وأولوياتها الوطنية.
هذه التجارب تُلهم الفلسطينيين اليوم، بأن التحول ليس استسلامًا، بل تعبير عن نضجٍ سياسي يُبقي المشروع حيًا في وجه العواصف.
الطريق إلى المستقبل… واقعية لا بدَّ منها
إن الخروج من هذا المأزق يحتاج إلى عصف فكري داخل الحركة وخارجها، وإلى استعداد لقبول حدٍّ أدنى واقعي من الترتيبات الوطنية التي تُبقي القضية الفلسطينية على قيد الحياة. وليس المطلوب التراجع عن الثوابت، بل إعادة صياغة الأدوات بما يضمن استمرار البقاء السياسي، وحماية ما يمكن حمايته من إنجازات وصمود.
فالسؤال الحقيقي اليوم ليس: هل تتراجع حماس؟
بل: كيف تحافظ على حضورها الوطني دون أن تُستنزف مواردها وقدرتها التنظيمية؟
خاتمة: حين يكون “القليل” هو الممكن
ليس أمام الفلسطينيين ترف انتظار معجزات سياسية. فالمرحلة تتطلب تفكيرًا جديدًا يجمع بين الشجاعة والحكمة، ويوازن بين ضرورات البقاء وحسابات السياسة.
وقد لا يكون الطريق ممهدًا، لكنه لن ينفتح إلا إذا أدركت القوى الفلسطينية مجتمعة أن المشروع الوطني لا يمكن أن يُبنى بالمناكفات، بل بالشراكة وبناء رؤية مشتركة للمستقبل.
ورغم سواد المشهد، يبقى الدرس الأكبر من تجارب الأمم أن الشعوب التي تعرف طريقها لا تضل، وأن من يمتلك الإيمان بقضيته وقدرة التجدد، قادر مهما طال الليل على عبور النفق والوصول إلى فضاء الحياة ومغالبة تحدياتها.
