أمد/ بقدر ما كانت المسألة الفلسطينية وطنية وقومية، بقدر ما كانت مسألة دولية بامتياز، لأن اللاعب الأساس في وجودها كان الغرب الامبريالي الاستعماري، الذي أصل لنشوء وإقامة الدولة الإسرائيلية على أنقاض النكبة الفلسطينية عام 1948، وكونه سد الأفق وأغلق الأبواب أمام استقلال الدولة الفلسطينية طيلة عقود الصراع الطويلة الماضية. رغم صدور أكثر من 1000 قرار أممي لصالح القضية والشعب الفلسطيني، والتأكيد على حقه في تقرير المصر اسوة بباقي شعوب الأرض. ومع ذلك لم يتوقف الشعب والقيادة الفلسطينية عن النضال حتى بلوغ هدف العودة والحرية والاستقلال وتقرير المصير، وتجذر وتشبث الشعب في ترابه الوطني تحت راية منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد له.
ارتباطا بما تقدم، فإن حرب الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على مدار العامين الماضيين منذ 7 تشرين اول / أكتوبر 2023 وحتى 9 أيلول / سبتمبر 2025، لم تكن حربا مقتصرة على المسألة الفلسطينية، وفرض الهيمنة الإسرائيلية الشاملة على فلسطين التاريخية من البحر الى النهر، ونفي الشعب الفلسطيني، وتبديد مشروعه الوطني، انما كانت ومازالت حربا أوسع وأعمق، كما ذكر بنيامين نتنياهو، رئيس الائتلاف الحاكم في تل ابيب، وكذلك الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بأن إسرائيل ومن خلفها الإدارة الأميركية “نجحت” في تغيير هيكلية الشرق الأوسط الكبير، وهذا التغيير له عميق الصلة بمعادلة الصراع الدولي، وتنافس الأقطاب الدولية على تقاسم النفوذ في قارات العالم، وبنتاج تغيير موازين القوى والانزياحات التدريجية في خارطة القوى الدولية، وخاصة تراجع مكانة الولايات المتحدة عالميا، سيتم تغيير المنظومة العالمية وتشكيل عالم متعدد الاقطاب.
ومع أن كل من روسيا والصين حصرت تدخلها في عامي الحرب الوحشية على قطاع غزة، في مجال النضال السياسي والدبلوماسي الاممي، وتقديم مشاريع قرارات أممية لوقف الحرب، وإصدار بيانات الشجب والاستنكار والادانة للجرائم الاسرائيلية، ولم تلجأ للاصطدام مع الولايات المتحدة أو إسرائيل تحسبا من ارتدادات ذلك على ملفات الصراع الأخرى، مثل الملف الاوكراني والتايواني والمصالح الاقتصادية المتبادلة، وتسليما من قبلها، أن الملف الفلسطيني الإسرائيلي مازال ملفا اميركيا حتى اللحظة التاريخية الراهنة. رغم أنه في علاقة جدلية مع الملفات الأخرى، ولا ينفصل عنها، الا انها مازالت تتعامل بحذر شديد مع مفردات وتداعيات الملف الفلسطيني، مع انها صاحبة مصلحة حقيقية في رفع منسوب تدخلها، حرصا على حماية وجودها في إقليم الشرق الأوسط عموما والوطن العربي خصوصا، بحكم مصالحها السياسية والاقتصادية والمالية والأمنية مع الدول العربية عموما ودول مجلس التعاون الخليجي خصوصا.
وبعد تبادل الرأي بين الدولتين وشعور روسيا بالحاجة الى التدخل للضغط على الولايات المتحدة لتعديل مشروع قرارها المقدم لمجلس الامن، ونتاج تغول الولايات المتحدة على مصالحهم في الإقليم، واستهداف مصالحهم القومية في تايوان وأوكرانيا، اتخذت روسيا الاتحادية خطوة متقدمة تجاه المسألة الفلسطينية ووقف الحرب في قطاع غزة، مع بلورتها مسودة مشروع اقتراح قدمته لمجلس الامن الدولي ووزع على الأعضاء مساء اول أمس الخميس 13 تشرين ثاني / نوفمبر الحالي، في مواجهة مسودة المشروع الأميركي المعدل للمرة الثانية، الذي وزع أيضا على اعضاء المجلس في نفس اليوم، وأبرز ما تضمنه مشروع القرار الروسي وفقا للقناة العبرية “12”: أولا الترحيب بوقف الحرب، وإطلاق سراح الرهائن والمحتجزين، واستئناف دخول المساعدات الإنسانية؛ ثانيا يؤكد مشروع القرار الروسي على أهمية وحدة وسلامة أراضي قطاع غزة والضفة الغربية تحت قيادة السلطة الفلسطينية، وتأكيد الالتزام بحل الدولتين على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967؛ ثالثا بالنسبة “للقوة الدولية” التي ستتواجد في غزة، يرفض المشروع المفهوم الأميركي لها، ويقترح تعديلات جوهرية حول اليات عملها، ودعا الأمم المتحدة لتحديد صلاحياته والفترة الزمنية المناطة بها؛ رابعا أسقط المشروع الروسي كليا “مجلس السلام الدولي”، وأناط الامر بالأمين العام لهيئة الأمم المتحدة واللجنة الإدارية الفلسطينية المؤقتة وفق جدول زمني ومهام محددة؛ خامسا لم يشر لموضوع نزع سلاح حركة حماس، تاركا الباب مفتوحا للقيادة الفلسطينية والدول العربية بالتنسيق مع الأمم المتحدة لمعالجة الامر؛ سادسا يرفض مشروع القرار الروسي الاليات الأميركية المقترحة للانسحاب الإسرائيلي والخط الاصفر الذي يفصل قطاع غزة لجزأين، ويرفض وجود منطقة عازلة على الحدود بين القطاع وإسرائيل؛ سابعا وينص المشروع على أن “مجلس الأمن يرفض أي محاولة للتغيير الديمغرافي أو الإقليمي في قطاع غزة، بما في ذلك أي عمل من شأنه تقليص مساحة قطاع غزة.”
ومما لا شك فيه، أن مشروع القرار الروسي أكثر وضوحا وتحديدا وربطا بين وقف الحرب في القطاع ومسار وافق عملية السلام على أساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من يونيو 1967، ويرفض منطق الهيمنة والاملاءات الأميركية وتساوقها مع الرؤية الإسرائيلية، وهو مشروع متكامل يستجيب لقرارات الشرعية الدولية. لهذا هاجم الوفد الأميركي في الأمم المتحدة روسيا لتأخيرها التصويت على مشروع القرار الأميركي، ووفقه فإن ذلك يعرض وقف إطلاق النار في القطاع للخطر. وأشار الاميركيون في بيانهم، أن “محاولات بث الفتنة الآن، بينما المفاوضات بشأن هذا القرار على قدم وساق، لها عواقب خطيرة وحقيقية على الفلسطينيين في غزة عواقب يمكن منعها.” مع أن العكس صحيح، لأن مشروع القرار الأميركي، رغم التعديل الثاني، وإدخاله بعض التحسينات النسبية، لكنه بقي عائما وهلاميا، مما يتيح لإسرائيل إبقاء الباب مفتوحا امام توجهاتها الاستعمارية في القطاع والضفة وقطع الطريق على خيار السلام وحل الدولتين، ليس هذا فحسب، بل وإبقاء عملية الفصل بين الضفة والقطاع.
وعلى أهمية مشروع الاقتراح الروسي، الا أنه من المبكر الافتراض، أن روسيا الاتحادية أو الصين الشعبية ستستخدم حق النقض الفيتو ضد المشروع الأميركي في مجلس الامن، الذي من المحتمل تقديمه يوم بعد غد الاثنين القادم، مع أن المصلحة لكليهما تحتم عليهما استخدام حق النقض الفيتو، لأن ذلك يخدم مصالحهم القومية والمشتركة ومصالح الشعب الفلسطيني والأنظمة العربية وعملية السلام ككل.
