خالد أبو أحمد

هذا ليس مجرد كلام ولا عرضًا عابر لوقائع حدثت على أرض الواقع، بل هو كشفٌ موجع لإحدى أبشع الجرائم التي ارتُكبت في حق السودان، ما ستقرأه عزيزي القارئ ليس حديثًا عاطفيًا، ‏بل شهادة دامية على اختطاف وطنٍ بكامله عبر أكبر عملية نهب منظم شهدتها الدولة السودانية. وصلتني رسالة طويلة من رجل سوداني موجوع، تكاد تشعر أن دموعه اختلطت بالحروف، يكتب ‏من عمق الألم، ومع كل سطر ينهار جزء من الصورة التي عرفناها عن السودان قبل أن تلتهمه منظومة الإسلامويين، وأنا حين قرأت تلك الرسالة، شعرتُ بالوجع ذاته… بمرارة العجز، وبغصة ‏الغضب، وبالألم الذي يصيبك عندما تدرك أن وطنًا كاملًا أُهين وسُرق تحت شعارات دينية زائفة، وباسم مشروع لم يجلب للسودان إلا الخراب.‎

الرسالة تكشف ما تعرضت له السكة حديد، ذلك الصرح الذي لم يكن مجرد خطوط وقاطرات، بل كان روح السودان وشريانه الأكبر، مؤسسة حملت ذاكرة البلد وعرق رجاله لعقود، وكانت قبل ‏العبث بها واحدة من أقوى دعائم الاقتصاد الوطني. قبل العام 1994، كانت السكة حديد تمتلك ما يعادل ثلاثة ملايين كيلومتر من القضبان والفلنكات الصالحة لمدّ الخطوط وصيانة الموجود، إلى ‏جانب شبكة ضخمة من ورش الصيانة: أربع في الخرطوم، وثمانٍ في عطبرة، واثنتان في كوستي، وثلاث في بابنوسة، واثنتين في الأبيض، وثلاث في بورتسودان، وورش أخرى في سنار، ‏وكريمة، وحلفا، وكسلا، والقضارف، ومدني، إضافة إلى ورش بالمحطات الإقليمية في الحصاحيصا وشندي وهيا وجبيت.‎

كانت السكة حديد تمتلك أسطولًا كاملًا 2430 عربة ركاب، و4600 عربة شحن وتناكر مواد بترولية ومياه، و124 بابور ديزل حديث من منشأ إنجليزي وأمريكي وألماني، و85 بابور بخار ‏للمناورة. أما على مستوى الإنتاج والخدمات، فقد أسست السكة حديد مصانع للمشروبات الغازية، وامتلكت أول فرن آلي في السودان، ومصنعًا للمياه والثلج، ووحدة متخصصة في إعداد الطعام ‏وحفظه، إضافة إلى مصنع للطوب الآلي وأسقف مرسيليا التي كانت تُنتج في عطبرة، وتُسوّق في العاصمة.‎

ولم تنتهِ القصة عند هذا الحد؛ فقد امتلكت السكة حديد منظومة سكنية ضخمة. ففي الخرطوم وحدها كان هناك 85 سكنًا للعمال، و230 منزلًا متوسطًا للموظفين، و22 منزلًا كبيرًا بمساحات واسعة ‏وحدائق، إضافة إلى أراضٍ تُقدَّر بـ 3.5 كيلومتر مربع. أما على مستوى السودان كله، فقد بلغ عدد منازل السكن 33 ألفًا للعمال، و124 ألفًا من المنازل المتوسطة، و15 ألف منزل كبير. كما ‏امتلكت 205 استراحات، و23 ناديًا للعاملين، و14 مسجدًا، و12 مدرسة أساس، و10 مدارس متوسطة، و8 مدارس ثانوية، و220 ورشة حدادة، و145 ورشة نجارة، و13 مركز خردة، و85 ‏مخزنًا كبيرًا بمساحة خمسة آلاف متر.‎

هذه المؤسسة لم تكن مجرد مرفق… كانت وطنًا. كانت مجتمعًا كاملًا يعمل ويتنفس وينتج ويؤثر في حياة ملايين الناس من بورتسودان إلى حلفا. كانت نموذجًا حقيقيًا لاقتصاد وطني قادر على ‏الوقوف بذاته، قبل أن يتحول إلى أشلاء تحت سكاكين قيادات التمكين الإسلاموي الذين عندما جاءوا إلى السلطة جاء الخراب معهم.‎

لم تكن المشكلة في الجهل الإداري أو الفشل المهني؛ بل في نية مسبقة للنهب، وفي مشروعٍ كامل يقوم على بيع كل ما يمكن بيعه، وتصفية كل ما يمكن تصفيته، وتحويل أقوى مؤسسات السودان ‏إلى خردة تُباع بالشاحنات. بيعت الأراضي والمنازل والمخازن والمصانع، حتى القاطرات والقضبان بيعت بالطن لمصانع الحديد الأجنبية التي تنتج السيخ لبناء بيوت غابات الأسمنت التي يسكنها ‏الفاسدون أنفسهم.‎

انهارت مؤسسة كانت تشغّل عشرات الآلاف، وتحولت اليوم إلى مرفقٍ هزيل لا يتجاوز فيه العمال 100 شخص، وموظفون صغار لا تتعدى أعدادهم 200 موظف، بينما يتنعم مجلس إدارة من ‏‏12 شخصًا في سكن فاخر وامتيازات لا علاقة لها بتاريخ هذه المؤسسة ولا بقيمتها.‎

وهنا يبرز السؤال الذي يطارد كل سوداني:‎

لمن ضاع هذا كله؟ ولصالح من؟ ومن خطط؟ ومن سمح؟ وكيف استطاعت عصابة واحدة أن تمارس هذا الدمار، دون أن يقف في وجهها أحد؟ وكيف تحوّل عماد الاقتصاد الوطني إلى ذكرى ‏مؤلمة تُروى مثل الحكايات التراجيدية؟.‏

إن ما جرى للسكة حديد لم يكن مجرد فساد مالي، بل جريمة وطنية غير مسبوقة في العالم، نعم، في العالم.. الحقيقة أن ما جرى لم يكن سرقة مؤسسة، بل سرقة السودان نفسه. سُرقت ذاكرة أمة ‏وعرق رجال وبقاء جيل كامل كان يمكن أن يعيش في بلد أفضل. وما جرى للسكة حديد هو الجزء الظاهر من جبل الجليد؛ فالمشروع نفسه هو الذي دمّر مشروع الجزيرة، والنقل النهري، ‏والخطوط البحرية، والخطوط الجوية، وكل ما كان يمثل روح الدولة السودانية.‎

وفي نهاية هذا المشهد الموجع، لا نملك إلا أن نتضرع إلى الله:‏

اللهم عليك بكل من نهب وخان، وبدّد وأفسد وباع وطنًا كان يمكن أن يكون جنةً لأهله.‎

اللهم لا تجعل لأموال الحرام بركة في بيوتهم، ولا راحة في قلوبهم، ولا فرارًا من عدلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.‎

 

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.