ما الذي يجعل الشعر مغايراً؟ فإذا قلنا حديثاً فإننا نعني التزامن أو المعاصرة، وإذا قلنا محدثاً فإننا نعني إحداث تغيير ما في بنيته، وإذا قلنا حداثياً فهذا يحيلنا إلى تجليات الحداثة، والحداثة بمفهومها الغربي تعني التمركز حول العقل، فهل ثمة توصيف عقلاني للشعر؟ ليس بالضبط ولكن بالضرورة هناك شعر لعبت مظاهر الحداثة ونتاجاتها في بلورة منطلقاته، فما يسمى بثورة الشعر الحر كانت من نتاج تجليات الحداثة في تأسيس مفهوم الدولة الحديثة ومظاهرها ومتبنياتها المدنية، ويدخل التلاقح الثقافي من خلال الترجمة بوصفه العامل الأهم، كذلك قصيدة النثر، وقبلهما نوعاً ما الشعر المرسل، ومحاولات ما سمي بالشعر المنثور أو النثر المركز أو المشعور، بل إن تجربة لويس عوض التي سبقت تجارب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة قد بنيت على ترجمة حوارات مسرحية بطريقة التفعيلة، ومع مجمل التحولات الشكلية التي أنتجتها السياقات الثقافية المغايرة والتي كانت ساعية لانتقال المجتمعات من طور البداوة أو الريفية والأهلية (ما قبل الدولة) إلى طور الدولة الحديثة، بقيت الأنساق المضمرة المتوارثة قائمة إلى جانب بعض الأغراض التقليدية والمضامين الأيديولوجية أو المؤدلجة وهي ما يمكن عدها أنساقاً موضوعية معلنة.
إن المتغيرات الشكلية في البناء والإيقاع واللغة لم تخلق نصاً مغايراً، طالما كانت أنساقه متسقة مع ما يضمره الخطاب السلطوي المؤدلج المهيمن والمكتسب من البداوة أو البدائية البشرية حتى الاستبداد بكل مظاهره الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، ولعل مغادرة الأغراض التقليدية كالمديح والرثاء والهجاء والفخر وغيرها أولى علامات المغايرة، لكن هل تخلصت القصيدة الحديثة من ذلك كلياً؟ لا طبعاً.. فإذا أمعنا النظر في شعر السياب والبياتي وغيرهما فسنجد الكثير مما يجسد تلك الأغراض وهي بالضرورة تستحضر كلما يكتنف وظيفة الشعر منذ الجاهلية حتى عصر النهضة، ربما تخلى البعض عن الوظيفة المباشرة للشاعر، لكنه لم يتخلَّ عن وظيفة الشعر في التمحور حول أغراض متوارثة تصريحاً أو تلميحاً ما أحدث خللاً بين شكل محدث يتمثل بعض تجليات الحداثة في الابتكار والقطيعة وأنساقها المضمرة من عنف وأنا متضخمة وعدوانية وإقصاء للآخر المختلف وتزلف وعصبية أيديولوجية/ قبلية وهو ما يشكل تضاداً مع مفاهيم المواطنة والمساواة والشرعية وقبول الآخر وحقوق الإنسان وأسس التمدن المتعالقة مع المظاهر الحضارية من تقنيات طباعية ووسائل نقل واتصالات وأضواء ومنشآت خدمية ومؤسسات تعليمية وصحية بدأت ملامحها بالتشكل.
المتغير الحقيقي الذي يشكل معياراً للتحديث أو المغايرة هو المتغير النسقي، وهو ما ساعدت عليه عوامل عدة أهمها الفهم الوظيفي الجديد للشعر، فضلاً عن الخروج على وظيفة الشاعر الذي تخلخلت العلاقة بينه وبين السلطة كما تخلخلت علاقته مع الذات والآخر، فلم يعد ممجداً للحاكم ولم يعد مفتخراً بذاته وأناه ولم يعد مداحاً مأجوراً لا لفرد ولا لقبيلة (بعضهم استعاض عن القبيلة بالحزب) ولم يعد ذلك الفحولي المستبيح لأجساد النساء كامرئ القيس أو المنتقص من كرامة الآخر كجرير والفرزدق، الشعر بشكله العمودي في أغلب نماذجه لا يزال يحافظ على تلك الوظيفة بصورة مباشرة أو غير مباشرة كذلك شعر التفعيلة، مع وجود نماذج تسعى للمغايرة، أما ما سمي بقصيدة النثر وهي أقرب لتوصيفات الشعر الحر من شعر التفعيلة فهي قصيدة موقف من السلطة الكلية، أي سلطة الموروث والذائقة والمنظومة السلطوية برمتها، لذلك شهدت تحولات حقيقية داخلية نسقية وليس شكلية كما يظن أو يعتقد البعض، فلم تعد أنا الشاعر متضخمة إلا في بعض النماذج الواقعة تحت سطوة النسق، إذ أصبحت أنا منكسرة مخذولة متمردة صارخة باكية حزينة خائفة، وبدلاً عن تمجيد السلطة انتقل التمجيد للإنسان وتجسيد ما يعانيه جراء الحروب والتهميش والتجويع ومصادرة الحقوق والحريات والاستلاب والغربة، طبعاً لا أعني كل ما يكتب تحت مسمى قصيدة النثر، فثمة نثر لا يمت بصلة للشعر، وثمة شعر تفعيلة وأحياناً عمودي أقرب لروح الشعر الحر، ليس في شكله وإنما في موضوعاته وبنائه وتركيباته اللغوية ومعالجاته ورؤاه.
قليلة هي نماذج قصيدة النثر، أعني ما ينطبق عليها التوصيف الدقيق للمصطلح بسماته الفرنسية (الكتابة السطرية، والكثافة، والمجانية..إلخ) بحسب متبنيات واستنتاجات سوزان برنار المعروفة، فالأنموذج العربي عموماً والعراقي بوجه خاص أقرب للشعر الحر الذي لا يعتد بوزن أو قافية، ونجد أن الكتابة السطرية لا تتوفر إلا في أنموذج النص المفتوح أو الشعر الحر، وقد تتوفر الكثافة لكن بطريقة كتابة مقطعية كأسطر قصيدة التفعيلة، أما المجانية فإنها نادرة جداً، وقلما يخلو نص بغض النظر عن شكله من غاية أو رسالة يراد إيصالها مهما أوغل في التجريد أو الغموض أو شعرية النثر بما تنطوي عليه من انزياحات لغوية أو دلالية.