أمد/ نتمثّل الشهادة التي نشرها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان حول تعرض إحدى الأسيرات الفلسطينيات للاغتصاب على يد جنود الاحتلال حدثًا بالغ الدلالة، ليس فقط من زاوية حقوق الإنسان، بل من منظور سوسيولوجيا العنف السياسي التي تكشف كيف تتحول الحرب من مجرد أداة تدمير إلى آلية لإعادة هندسة الاجتماع الإنساني عبر الجسد والرمز والمعنى.

فالجريمة هنا لا تُفهم كواقعة فردية أو انحراف سلوكي، بل بوصفها تجسيدًا لوظيفة الدولة الاستعمارية في ممارسة السيادة القصوى على الجسد الفلسطيني، حيث يصبح الجسد ذاته ميدانًا للعقاب والسيطرة ومحو الحدود بين الحرب والوجود الإنساني.

الاغتصاب كأداة هيمنة استعمارية

لا يمكن النظر إلى هذه الجريمة بمعزل عن منطق السيطرة الكولونيالية الذي يسعى لاختراق الجسد كما يخترق الأرض. فالعنف الجنسي يصبح وسيلة لمعاقبة الجماعة بأكملها عبر إذلال رموزها الجسدية والأنثوية، وتفكيك المعاني الاجتماعية المرتبطة بالصمود والكرامة. إن الجسد الأنثوي في السياق الفلسطيني ليس مجرد فردٍ، بل مجالٌ رمزي للهجوم على المجتمع بأسره.

العنف الجنسي كرسالة اجتماعية

الاغتصاب في هذا السياق هو رسالة إلى المجتمع: لا أحد في مأمن، حتى الجسد نفسه ليس ملكًا لك. إنها ممارسة تنزع عن الإنسان حقه في ملكية ذاته، وتحوّل الخوف إلى لغة جماعية تُعيد إنتاج العجز والتفكك. وهنا تتجلى رؤية فوكو حول الجسد كفضاء للسلطة والانضباط، حيث يُعاد تشكيله ليطابق إرادة القوة الاستعمارية، ويغدو طيّعًا وخاضعًا بفعل الرعب.

تدمير المعنى الاجتماعي للأنوثة والصمود

اغتصاب النساء في سياق الحرب هو إبادة رمزية للبنية الاجتماعية. فالأنوثة الفلسطينية، بوصفها مركزًا للعائلة والذاكرة، تُستهدف لتدمير قدرة المجتمع على إعادة إنتاج ذاته ومعناه. بهذا، لا يهدف الاحتلال إلى إسكات الجسد فقط، بل إلى تفكيك الجماعة عبر إذلال رموزها الحاملة للهوية والذاكرة، وتحويل المجتمع من فاعل مقاوم إلى مشاهد مذعور.

البعد الجمعي للصدمة

الصدمة هنا ليست نفسية فردية بل اجتماعية ممتدة، تنتقل عبر الحكايات والصور والمخيال. وفقًا لبورديو، يتحول هذا النوع من العنف إلى عنف رمزي حين يتسلل إلى الوعي الجمعي، فيعيد إنتاج الصمت والخضوع من داخل المجتمع ذاته. فحتى من لم يتعرضوا مباشرة للعنف يعيشون أثره كخوفٍ دائم وكسكوتٍ قسري على الألم.

الشهادة بوصفها مقاومة رمزية

رغم فظاعة الجريمة، فإن مجرد نطق الأسيرة بما جرى هو فعل مقاومة في ذاته. فالقول هنا ليس مجرد توثيق، بل استعادة جزئية للسيادة على الجسد والكلمة. وفقًا لجيمس سكوت، يمكن اعتبار هذا النطق “نصًا خفيًا للمقاومة”، لأنه يزعزع احتكار السلطة للسرد، ويعيد تعريف الممكن قوله في مجتمع جُرّد من حقه في الكلام.

خاتمة

يأتي هذا الموقف في امتداد البحث الذي عملت عليه الفترة الماضية (قيد النشر) حول سوسيولوجيا العنف السياسي في غزة، والذي ينطلق من أن الحرب ليست فعلًا تدميريًا فحسب، بل أيضًا أداة لإعادة تشكيل الاجتماع الإنساني تحت الإبادة. في هذا السياق، يُظهر العنف الجنسي، بوصفه أحد أكثر أشكال العنف تطرفًا، كيف تُستخدم السلطة الاستعمارية لإعادة هندسة العلاقات والمعاني والحدود بين الأجساد والجماعات. إن شهادة الأسيرة ليست واقعة منفصلة، بل تجسيد مكثف لكيفية اشتغال العنف كمنظومة لإنتاج الخضوع وإعادة صياغة المجتمع عبر الجسد.

 

شاركها.