خالد أبو أحمد


خالد أبو احمد

مثلما تصلني رسائل الشكر والتقدير والإشادة بما أكتب عن قضية السودان المحورية (الحركة الإسلامية)، كذلك ‏تصلني رسائل ممعنة في الشتيمة والبذاءة كلما كتبت مقالًا في سياق مشروعي التنويري عن فساد هذه الطغمة ‏الإسلاموية شعروا بالغيظ الشديد، وفي قرارة نفسي أعتقد أن هذا أمر طبيعي جدًا؛ فمن يكشف العفن لا ينتظر وردًا، ‏ومن يعرّي الفساد لا يُصفّق له أصحابه، أتفهم تمامًا أن تأتيني انتقادات من الذين تتضرر مصالحهم بتعريتي لفساد ‏تنظيمهم، وكشف أباطيلهم وكذبهم وضررهم الكبير الذي أحدثوه في بلادنا، لكن غير الطبيعي أن يجمع هؤلاء على ‏أني أكذب فيما أورده من معلومات‎.‎
وأتساءل هنا: هل سرقة موارد البلاد، مثل خطوط الطيران الوطنية، وشركات القطاع العام، وبيوت السودان في ‏المملكة المتحدة وفرنسا، كذبٌ ومحض تلفيق مني؟ وتدمير الخدمة المدنية، وتمكين الأقارب والأصهار في مفاصل ‏الدولة، خيالٌ من عندي؟ هل أنا من اختلق مجازر دارفور؟ هل أنا الذي فصل عشرات الآلاف من الموظفين باسم ‏‏(التمكين)؟ أم أنكم ببساطة تريدون طمس الحقيقة لأن مرآتها تفضح وجوهكم؟‏
وأزيدكم: حين أكتب عن فسادكم الاجتماعي والأخلاقي، فليس ما أقول من نسج خيالي، ألم يقل القيادي في حركتكم ‏الإسلاموية د. محمد محيي الدين الجميعابي مدير دار المايقوما لرعاية الأطفال مجهولي الوالدين بنفسه‎ ‎‏”إن الدار ‏تستقبل سنويًا ما يزيد على 800 طفل لقطاء، وأن أضعاف هذا العدد تلتهمهم الكلاب في العراء أو يُقتلون خنقًا ودفنًا ‏في النفايات‎!‎‏”؟
هل أنا من قال ذلك؟ أم أحد رموزكم منكم وفيكم، ممن رأى بأم عينيه نتائج ما صنعت أيديكم؟ هل كانت أقوالي أم ‏شهادتهم؟ فبأي وجهٍ تكذّبون ما اعترف به قادتكم؟
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد بلغ الفساد الأخلاقي حدًّا جعل القيادية الكبيرة د. سعاد الفاتح تصرخ بأعلى صوتها ‏في أكثر من محفل، محذّرةً من التفلتات الأخلاقية التي اجتاحت المجتمع بسبب أنكم فتحتم الأبواب للتجارة بالحرام، ‏قائلة‎: «‎أصبح هناك زواج رجل من رجل‎!‎‏”‏‎ ‎في إشارة إلى زواج المثليين، وأضافت‎: ‎‏”إن ما يحدث في السودان من ‏تفلت لا يحدث في أي بلد أوروبي متفلت، وما يجري خزيٌ وعارٌ لا يُغتفر”.‏
تلك ليست كلمات خصومكم، بل صرخة من قلب تنظيمكم، من امرأة كانت رمزًا من رموز الحركة ذاتها. بل أكثر من ‏ذلك، أقرت القيادية نفسها بفشل التجربة الإسلاموية قائلة أمام البرلمان، بحسب صحيفة (اليوم التالي)‏‎ ‎‏”نحن قاعدين ‏خاتين يدنا في الموية الباردة وننتقد، ونحن السبب في الفساد والفقر”!.‏
هكذا نطقت الحقيقة من داخل جدرانكم، لا من خارجها، ثم تتهمونني بالكذب والافتراء‎.‎
ولكي تكتمل الصورة، استمعوا إلى ما قاله المهندس طارق محجوب، القيادي في الحركة الإسلامية، في فيديو موثّق ‏بتاريخ 3 يونيو 2022م، وهو يعترف بصوتٍ واضح بفشل مشروع الحركة الإسلاموية، بقوله‎: ‎‏”إن نظام الإنقاذ ألغى ‏الدولة نفسها، كما ألغى المؤسسية، وكرّس الحكم الفردي المطلق، إن الضياع الذي نحن فيه سببه أننا لم نرث دولة من ‏الإنقاذ، فقد حوّلت النظام إلى حكم فرعوني، يعيّن الرئيس كل شيء بنفسه، من الغفير إلى رئيس القضاء، ألغى ‏الدستور والبرلمان ومجلس الوزراء، فأورثنا نظامًا بائسًا لا يعرف فيه الرجل الأول رأس الدولة من مؤخرته”.‏
هل هذا من بنات أفكاري؟ أم من أقوالي؟ هذه شهادات منكم، لا من خصومكم، اعترافات علنية تُدين فكرًا وممارسة ‏دمّرت السودان وأهانت مؤسساته. فبأي منطقٍ بعد هذا تقولون إني أفتري عليكم؟
لقد ظللتم ثلاثين عامًا ويزيد تحكمون السودان باسم الله، بينما أفعالكم تُنازع الشيطان في خبثها. زرعتم الكراهية في ‏قلوب الناس، وأهدرتم ثروات البلاد باسم “المشروع الحضاري”، وهو لم يكن إلا مشروعًا لتوريث المناصب ‏والبيوت والعقارات والأرصدة. حولتم الوطن إلى غنيمة، والشعب إلى رعايا في مزرعة السلطان. وحين سقط ‏نظامكم، لم تسقطوا لأنكم ظُلمتم، بل لأن الله لا ينصر من يستبيح دماء عباده باسم الدين‎.‎
أنتم من علّمتم الشباب الحقد والتطرف، أنتم من حطم مؤسسات الدولة، أنتم من أفقر الناس وشتتهم في المنافي، أنتم من ‏حوّل الخرطوم إلى سوق نخاسة للولاءات. وكلما كتبنا الحقيقة، قلتم: “هذا يكره الإسلاميين!”، بينما أنتم أول من أساء ‏إلى الإسلام ذاته بأفعالكم‎.‎
ليست كتاباتي كراهية لكم، بل حبٌّ لوطنٍ نهشتموه حتى العظم. وما أقوله ليس إلا شهادة للتاريخ، حتى لا يأتي جيل ‏بعدنا فيسأل: من الذي أضاع السودان؟
أنا لا أكتب لأجل شتائمكم ولا لأجل رضاكم، بل لأجل أن تبقى الحقيقة حية، ولأجل أن يعرف الناس أن الخراب لم ‏يكن صدفة، بل كان نتيجة فكرٍ مريضٍ وسياساتٍ خبيثةٍ وتجار دينٍ باعوا أنفسهم للسلطة والمال‎.‎
وأنا لا أكتب لكي أُغيظكم وإن كان هذا من حقي بل أكتب للتاريخ، تحصينًا للأجيال الجديدة حتى لا تقع في شرك ‏حركتكم الفاسدة. فاشتموا ما شئتم، واصرخوا كما تشاؤون، لكن الحقيقة لن تتغير، والتاريخ لن يرحمكم، والسودان ‏سيعود رغم أنوفكم‎.‎
ولأنّي أكتب بضميرٍ حي، لا أملك إلا أن أقول ما يمليه عليّ وطني وذاكرتي وقلبي. ليست القضية أن ننتصر في ‏معركة الكلمات، بل أن نحفظ للحق صوته وسط هذا الركام من الأكاذيب التي دفعتم ثمنها للقونات وللغرف الإعلامية ‏في أكثر من دولة، من دمنا وعرقنا، لكي تُغطوا على الحقيقة‎.‎
كلي قناعة بأن الوطن لا يُبنى بالصمت، ولا تُغسل خطاياكم بالنسيان. سيبقى قلمي شاهدًا لا يخاف في الحق لومة لائم، ‏يكتب من أجل الذين دُفنوا تحت رماد الحروب، ومن أجل الأجيال التي لم تعرف وطنًا آمنًا بعد. لذا، سأواصل الكتابة ‏ما دام في الصدر نفس، لأن الكلمة الصادقة هي آخر ما تبقّى لنا من وطنٍ نهشه الفساد، وأحرقه الجهل، وباعه من ‏ادّعوا الورع والتقوى‎.‎
قال أمير الشعراء أحمد شوقي يرحمه الله‎:‎
قف دوّن رأيك في الحياة مجاهدًا.. إن الحياة عقيدة وجهاد

‏12 نوفمبر 2025‏

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.