الديمقراطية تقوم على توازن دقيق بين سلطة تمارس القرار وأخرى تراقب وتُقوّم، فيتحقق الانسجام بين الحكم والمساءلة. هذا التوازن يمنح الحياة السياسية حيويتها ويصون المؤسسات من الجمود، لأن المعارضة الواعية تضمن مراقبة الأداء وتطويره عبر النقد المنهجي واقتراح البدائل الواقعية. النقد حين يُمارس بوعي ومسؤولية يتحول إلى وسيلة إصلاح ترفع من جودة القرار العام وتمنع الانحراف عن المصلحة الوطنية.
في التجربة المغربية، أدت المعارضة أدواراً أساسية منذ الاستقلال، فساهمت في توجيه السياسات العامة والدفاع عن التعددية ودعم الإصلاح المؤسساتي. الأحزاب الوطنية الأولى ربطت بين الفعل السياسي والمصلحة الوطنية، فكان نقدها جزءاً من مشروع بناء الدولة الحديثة. ومع مرور الزمن، شهدت الممارسة السياسية تحولات جعلت بعض القوى تميل إلى الخطاب الانفعالي، ففقد النقد عمقه الإصلاحي، وتحول إلى أداة للظهور الإعلامي أكثر من كونه فعلاً رقابياً منتجاً. هذا التحول أثّر في صورة الأحزاب وأضعف ثقة المواطنين، خصوصاً الشباب، في جدوى المشاركة السياسية.
المشهد البرلماني يعكس هذا الوضع. فبدلاً من النقاش الجاد حول القوانين والسياسات العمومية، تتكرر المداخلات التي تميل إلى المبالغة والسخرية، مما يحوّل الجلسات إلى مواجهات لفظية تفتقر إلى البناء العملي. يتراجع التركيز على المضمون والنتائج، ويتحوّل النقاش إلى مسرح رمزي يستنزف الوقت والجهد من دون أثر ملموس في الواقع.
الإعلام الرقمي زاد من حدة هذا المسار، إذ أصبحت المنصات فضاءً لخطابات سريعة تثير الانفعال وتستدرج التفاعل العابر. الخطاب السياسي فقد جزءاً من عمقه لصالح الصيغ المختصرة التي تبحث عن الأثر اللحظي. هذا الواقع جعل السياسة في نظر فئات واسعة عملاً سطحياً لا يتجاوز حدود الكلام. ضعف التحليل الموضوعي في الفضاء الرقمي ساهم في توسيع الفجوة بين المواطن والمجال العام، وأضعف الرغبة في المتابعة والمشاركة.
في اللقاءات الإعلامية والندوات الحزبية، يتكرر المشهد ذاته؛ جدل شخصي واتهامات متبادلة تحجب النقاش البرنامجي. هذا الأسلوب يُضعف صورة الأحزاب ويقلل من حضورها في المجتمع، كما يُفرغ المعارضة من بعدها الفكري ودورها الإصلاحي. فحين يغيب النقاش الموجه نحو الحلول، يضيع جوهر السياسة وتفقد الأحزاب رسالتها التمثيلية.
وظيفة المعارضة تمتد إلى تقديم رؤية تحليلية للأداء الحكومي واقتراح بدائل عملية تستند إلى معطيات دقيقة. النقد المسؤول يرفع جودة القرار العام لأنه يكشف الخلل ويفتح الباب للتصحيح قبل تفاقم الأخطاء. التجارب الديمقراطية تُظهر أن المعارضة الفاعلة تساهم في تطوير الأداء المؤسسي وتمكّن المواطن من تقييم السياسات على أسس واقعية، مما يعزز الثقة في الدولة ويحد من اللامبالاة السياسية.
جذور الأزمة الحالية في الخطاب المعارض تعود إلى الصراعات المبكرة حول الشرعية والتمثيل، وهي التي أورثت ذهنية تعتبر الاعتراف بإنجاز الخصم ضعفاً في الموقف. هذا الفهم ساهم في انتشار منطق الصراع الدائم، ومع تطور الإعلام الرقمي ازداد الميل إلى الانفعال والتهويل. فبرز خطاب يغذي الشك ويقوّض الثقة في المؤسسات، ويمنح الانطباع بأن السياسة دائرة مغلقة لا تُنتج إصلاحاً حقيقياً.
تجديد الثقافة السياسية يقتضي تجاوز هذه الذهنية وبناء أسلوب نقدي يقوم على الاعتراف بالمنجز حين يتحقق، والتنبيه إلى مواطن الخلل بأسلوب متزن. هذا التوجه يعزز المصداقية ويقوّي العلاقة بين المواطن والدولة. فالمعارضة التي تمارس النقد بموضوعية تُكسب احترام المجتمع، وتصبح شريكاً في الإصلاح لا خصماً دائماً للسلطة.
انخراط المجتمع المدني والباحثين في تقييم السياسات العمومية يمنح النقاش العمومي عمقاً جديداً، ويُخرج الممارسة السياسية من دائرة الشعارات إلى مجال التحليل الواقعي. حين يتحول النقد إلى عملية معرفية قائمة على البيانات، يكتسب الفعل السياسي بعده المؤسسي ويبتعد عن الانفعال. فالديمقراطية تنضج عندما تلتقي إرادة الدولة مع وعي المجتمع في إطار من الاحترام المتبادل والمراقبة الرشيدة.
إعادة بناء الممارسة السياسية وفق هذا الأفق تجعل المعارضة قوة اقتراح وتطوير، لا قوة اعتراض دائم. حين تؤمن الأحزاب بدورها في المشاركة في صياغة السياسات العامة، تتوطد الشراكة بينها وبين مؤسسات الدولة، ويصبح الخلاف مصدراً للإثراء لا للعقاب. فالمجتمع الذي يمتلك معارضة متزنة يملك ضمانة لاستمرار الإصلاح واستقرار الدولة.
المطلوب اليوم معارضة تمتلك أدوات التحليل والمعرفة، قادرة على الجمع بين النقد والإقناع، وتعتبر الفعل السياسي مسؤولية لا مجالاً للمزايدة. حين يتأسس النقد على الموضوعية والاتزان، يكتسب احترام الرأي العام ويعيد الثقة في المؤسسات. بهذا النهج تتجدد الديمقراطية المغربية على أسس صلبة، ويصبح العمل الحزبي فعلاً إصلاحياً يهدف إلى خدمة المجتمع وتطوير الدولة.
توازن النقد البناء مع الاعتراف بالإنجاز يمثل جوهر الديمقراطية الراشدة. فحين يجتمع الوعي بالمسؤولية، يتحول العمل السياسي إلى طاقة تطوير وإبداع، وتستعيد السياسة معناها النبيل القائم على خدمة الصالح العام. المعارضة التي تدرك هذا المعنى قادرة على بناء الثقة في الفعل السياسي، والثقة هي أساس استمرار الديمقراطية واستقرارها.
المصدر: العمق المغربي
