ياسر عرمان
فاطمة أحمد إبراهيم منتوج سوداني وطني خالص (homemade) وهي امرأة متفردة وذات بصمة خاصة وعميقة في حركة النساء الثورية الديمقراطية الحديثة في السودان، وإن أردنا أن نلخص نضال النساء السودانيات المتنوع المشارب في الريف والمدن في شخص امرأة واحدة فهي الأقرب إلى الاتفاق حولها وتنصيبها في قمة الهرم.
حِرص فاطمة أحمد إبراهيم على سودنة الحركة النسائية السودانية ذات الامتدادات الأممية التي انتمت إليها وقادتها كحرصها بأن لا تترك ثوبها ينسدل من رأسها إلا وأسرعت في التقاطه، ووضعته تاجاً على رأسها، وهي صانعة ماهرة لبريق الحركة النسوية في بلادنا، وأدخلتها في البيوت والأكواخ، كانت امرأة ثورية ومناضلة وشجاعة ومكافحة، ولا تخلو من ظلال التقليدية، كانت تمسك بالبرنامج السياسي للحركة النسوية أحياناً كثيرة فوق الاعتبارات الأيدلوجية، وربما كان ذلك سر نجاحها الجماهيري وقربها من الضمير الشعبي للنساء، كانت امرأة عادية تشبه العديد من أمهاتنا وأخواتنا في كثير من أنحاء البلاد، ورغم صدامها للقيم البالية التي ضيقت الخناق على النساء ومطالبتها العنيدة بحقوقهن، لكنها كانت أقرب لعالم الناس العاديين، وكانت الأولى عند عتبة البرلمان وسبقت بذلك العديد من البلدان في أفريقيا والعالم العربي وبعض الدول الأوروبية.
فاطمة كانت حازمة في أمرها ونضالها من أجل قضايا النساء، وتشبه ملايين النساء العاديات في الأسواق وشارع الأربعين وحتى في شارع أكسفورد بلندن لم تغرها سنوات طويلة من الشهرة والقيادة.
في هذا المقال أود أن أرسم لوحة للأستاذة الجليلة فاطمة أحمد إبراهيم بعين من عيون جيلنا والنظر إلى تأثيرها في ظل التحولات العميقة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدها مجتمعنا في الريف والمدن، وتأكل بنية المجتمع المدني والحروب التي كادت أن تجفف مجرى الحركة النسوية والصمود الأسطوري للنساء السودانيات في ظل الحروب المتناسلة وتصاعد خطاب الكراهية والانحيازات الجغرافية والإثنية والتعقيدات التي شهدتها قضايا النساء وهي قضايا مركبة، وأيضا الدور الكبير للنساء في الثورة السودانية، وخصوصاً ثورة ديسمبر، وضرورة الانتباه لدور النساء في ريف السودان، وما تبقى من سحر فاطمة أحمد إبراهيم بعد صعود أجندة النسوية الليبرالية الجديدة.
تجاوز أثر فاطمة أحمد إبراهيم نطاق البنية الحديثة ليصل إلى البنية التقليدية في ريف السودان. ومن الشواهد الدالة على ذلك ما ذكره الناظر بابو نمر في حواره القيّم مع المفكر والكاتب الدكتور فرانسيس دينق، وهو الحوار الذي وثّقه الأخير في كتابه «مذكرات بابو نمر» ونشره بالعربية والإنجليزية، تمامًا كما فعل في كتابه عن والده الناظر دينق مجوك.
ويتحدث بابو نمر في هذه المذكرات عن كيفية التوفيق بين قبيلتي الدينكا والمسيرية في مسألة الدية، خاصة مع اختلاف الثقافات بينهما؛ فالمسيرية متأثران بالشريعة الإسلامية، يعتبرون دية الرجل ضعف دية المرأة، بينما يرى الدينكا أن دية المرأة أكبر من دية الرجل. ويذكر الناظر بابو نمر أنه توصّل مع الناظر دينق مجوك إلى اتفاق تتساوى فيه دية الرجل بالمرأة بين القبيلتين. ثم طلب بابو نمر أن يُبلَّغ هذا الاتفاق إلى فاطمة أحمد إبراهيم، قائلاً إنهم كانوا أول من ساوى بين المرأة والرجل.
الفكر الثوري التقليدي الذي انتمت إليه فاطمة أحمد إبراهيم فكر أممي ثوري يرى أنه لا يمكن إنهاء التمييز ضد النساء إلا باقتلاع الأنظمة التي تنتج التمييز نفسه، ويرى التمييز ضد النساء جزءاً لا يتجزأ من إطار عريض للاضطهاد يشمل المرأة والرجل والطبقات الفقيرة، ويرى أن التمييز ضد النساء جزءاً من نظام متكامل قائم على الطبقة والكلونيالية والرأسمالية، وضرورة التغيير الهيكلي الشامل والثوري، وأن تحرير النساء مرتبط بتحرير كامل المجتمع.
من جهة أخرى، فإن أجندة الليبرالية النسوية الجديدة، والتي صعدت في العقود الأخيرة من حياة الأستاذة فاطمة أحمد إبراهيم لم تتطابق مع جوهر تفكيرها، وقد حملتها المتغيرات السياسية بأن تمضي سنواتها الأخيرة في العاصمة البريطانية؛ مما أتاح لها أن تلتقي بالأجندة الليبرالية النسوية الجديدة وجهاً لوجه، وتلامسها عن قرب.
سعت الأجندة الجديدة لتحسين أوضاع النساء في ظل الأنظمة الرأسمالية القائمة عبر انتزاع الحقوق التدريجي والتمثيل المتكافئ والتمكين، وركزت الأجندة على الحقوق الفردية للنساء والمساواة في الأجور والعمل من داخل الأنظمة القائمة وتوفير مداخل لترفيع وتعزيز مكانة النساء والتركيز على الإبداع النسوي في كافة المجالات والتقدم من خلال الوظائف وحرية المرأة في امتلاك جسدها وغيرها من أجندة اللبرالية النسوية الجديدة.
الأستاذة فاطمة عاشت مجد وصعود الخطاب الثوري التقليدي وتصاعد مطالب النساء وارتفاع راية اليسار كما عاشت قدراً ليس بالقليل من حياتها في ظل تصاعد الأجندة النسوية اللبرالية الجديدة وانحسار اليسار، والحقيقة أن هنالك تداخلاً بين الأجندتين، ولا يوجد فصل كامل على شاكلة الأبيض والأسود، وكانت فاطمة نفسها في مقدمة المناضلات في قضايا الأجر المتساوي للعمل المتساوي، كما أنها قادت نضالاً ثورياً وآخر إصلاحي قانونياً مع اختلاف المحطة النهائية بين الأجندة الثورية وأجندة اللبرالية النسوية الجديدة، سنتطرق لذلك لاحقاً في محاولة لتلمس ما تبقى من أثر فاطمة ورفيقاتها العظيمات بعد تصاعد أجندة اللبرالية النسوية الجديدة والموجة الرابعة، وطوبى لفاطمة فقد عرفتها عن قرب وتعلمت منها.
في صيف ١٩٨٠ كنت طالباً في المرحلة الثانوية متحمساً لقضايا التغيير ولا أزال، وكنت قد التحقت بصفوف الحزب الشيوعي، وقبلها قد تأثرت بشدة حينما اطّلعت على كتيب (مجازر الشجرة) ولم يتجاوز عمره حينها (١٥) عاماً وحينما بلغت (١٦) عاماً التحقت بالحزب، وقد هزتني إعدامات ١٩ يوليو، وتوقفت عند الشفيع أحمد الشيخ وفاطمة أحمد إبراهيم والآخرين. وبعدها علمت أن لديها مكتبة في شارع الأربعين تسمى مكتبة (مهيرة)، في ذلك العام، وكان الوقت صيفاً قائظ والشمس تلهب الأرض بأشعتها مثل نظام مايو أخذت طريقي نحو المواصلات، ونزلت في محطة عابدين، ودلني أول من سألته في مكتبة مهيرة ولحسن حظي كانت الأستاذة فاطمة موجودة، وترتب بعض الكتب، وبعد التحية عرفتها بنفسي وبعض الناس المهمين الذين تعرفهم، والذين أعمل معهم في العمل السري، فابتسمت وناولتني كوب من الماء ومنذ ذلك الوقت امتدّت علاقتي بها، ومرت السنوات ورحلت فاطمة عن عالمنا، وكنت حضوراً في مطار لندن أشيع جنازتها المتجهة نحو السودان وكانت جنازتها مثل كل حياة فاطمة لا تنتهي بهدف، بل تجذب إليها كل من أحبها بعد طول غياب وسنوات أمضتها في العاصمة البريطانية. ومضيت خلف الجنازة في لندن بقلب ثقيل، وتذكرت ذلك اليوم البعيد حينما سألتها عن ١٩ يوليو وعن ما جرى؟ ومرت في خاطري سحابة الحزن التي كانت على وجهها وحينما حكت لي..
نواصل
المصدر: صحيفة التغيير