تصدير :

تحية للنص المدهش الذي يعكس وجه الحياة المتجدّد،تحية للقصيدة المتشبثة بهويتها كقصيدة،فمكانها ومكانتها بقامة أبجديتها،وليس بمهارتها في استرضاء السلطة وتملقها،وإن كانت سلطة شعبية..( الكاتب)

 

 

على مدار التاريخ،لم يكن الشعر مجرد تعبير جمالي منعزل،بل كان صوتاً حياً يعكس نبض المجتمعات وتطلعاتها.والثورة بوصفها حدثاً استثنائياً تهزّ البنى الراكدة،وتُعيد تشكيل دور الشاعر ووظيفة الشعر،لتتحول القصيدة من مجرد انفعال عابر إلى وثيقة وجودية توثق زمن التحوّلات الكبرى.هذه العلاقة الجدلية بين الشعر والشاعر والثورة تطرح أسئلة عميقة عن دور الفن في زمن الثورة،وعن قدرة اللغة على تمثيل اللحظات التاريخية الفاصلة.

لقد شهد الشعر الحديث تحولات جذرية في الشكل والمضمون،متأثراً بالثورات الصناعية والاجتماعية والفكرية التي عصفت بأوروبا منذ القرن الثامن عشر.لم يكن الشعر منعزلاً عن هذه التحولات،بل كان جزءاً من حركة تاريخية كبرى أعادت تعريف الإنسان والعالم.

كما عرف الشعر العربي علاقة عضوية مع الثورة، بدءاً من ثورات التحرر الوطني،مروراً بالثورات الاجتماعية،ووصولاً إلى ثورات "الربيع العربي". كان الشعر دوماً صوت المقموعين وسجل أحلامهم وآلامهم.

في هذا السياق،تمثل العلاقة بين الشعر والثورة واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً وإثارة في التاريخ الأدبي والفكري،فهي علاقة تتجاوز الانزياح السطحي نحو الأعماق الوجودية للكينونة الإنسانية.وليست الثورة مجرد حدث سياسي أو اجتماعي عابر،بل هي انزياح وجودي يمس جوهر الإنسان ووجوده في العالم.وبالمثل،فإن الشعر ليس مجرد كلمات موزونة،بل هو استجواب دائم للوجود،وتفكيك للواقع،وبناء لعوالم بديلة.

وإذن ؟

 يجتمع الشعر والثورة إذا في مساحة اللامألوف، حيث يتم اختراق المألوف والسائد لإعادة تشكيل العالم والمعنى..

وهنا أقول : ليست الثورة مجرد تغيير سياسي أو اجتماعي،بل هي انزياح وجودي يمس أسس الوجود الإنساني في العالم،إذ تتجلى الثورة كفعل شعري يتجاوز الواقع القائم ويبني واقعاً جديداً قائماً على قيم الحرية والكرامة والعدالة.لكن العلاقة بين الشعر والثورة علاقة ملتبسة،فهناك فرق بين "شعر الثورة" و"ثورة الشعر".الأول قد يتحول إلى مجرد شعارات موزونة تردد انفعالات الثورة،بينما الثاني هو ثورة داخلية على مستوى الشكل والمضمون،تهدف إلى تحرير القصيدة من كل القيود..

في السياق العربي،برزت هذه الإشكالية بشكل حاد خلال ثورات ما يسمى ب" الربيع العربي"،حيث حاول العديد من الشعراء الاستجابة للأحداث الجسام،لكن النتائج الفنية كانت في كثير من الأحيان دون مستوى التحدي.كما يشير الشاعر المصري حسن طلب،فإن "الشعر يضعف عندما يكون تابعاً للأحداث السياسية".

ما أريد أن أقول ؟

أردت القول،الشاعر يقف على الخط الفاصل بين الوجود والثورة،بين الانزياح الداخلي والانخراط في العالم.فمن ناحية،يسعى الشاعر إلى تأويل العالم باعتباره انكشافاً للتجربة الحدية التي تتجاوز المألوف والممكن.من ناحية أخرى،يجد الشاعر نفسه ملتزماً بالاستجابة لتحديات واقعه وأزمات مجتمعه.هذه الازدواجية تخلق توتراً إبداعياً قد يثمر قصيدة وجودية ثورية،أو قد يتحول إلى مجرد انفعال عاطفي يفتقر إلى العمق الجمالي..!

لكن التحدي الأكبر يبقى هو الانزياح عن الشعري الزائف والوصول إلى قصيدة حقيقية مستقلة، قادرة على استغلال الفرصة التاريخية لاسترداد وضعها الطبيعي.هذا يتطلب من الشاعر الذكاء والموهبة معاً،وقدرة على توظيف الإمكانيات الجديدة لتجسيد رؤية وجودية ثورية حقيقية .

ختاما أقول : بعد أن تخف حدة الثورات وتستقر الأوضاع،يبقى السؤال: ما مصير الشعر بعد العاصفة؟!

 يرى النقاد أن الشعر الحقيقي هو القادر على تجاوز اللحظة الآنية ليتحول إلى وثيقة إنسانية خالدة.فالثورة ليست مجرد حدث سياسي عابر،بل هي حالة وجودية عميقة تمس جوهر الإنسان وتدفعه إلى إعادة النظر في ذاته وعالمه. والشعر،في النهاية،هو أحد أعظم أشكال هذه المراجعة الوجودية.

ويظل الشعر ثورة دائمة على المستوى الوجودي والجمالي،كاشفاً عن التوتر الحيوي بين الوجود والعدم،بين المعنى واللامعنى.ففي اللحظة الشعرية الخاطفة،يتحقق الانزياح الأقصى،حيث يصبح الشاعر هو الشعر نفسه،ويتحول الشعور إلى فعل كلّي جماعي يعبر عن وحدة الإنسانية في الجوهر .

أما الثورة،فهي التجسيد العملي لهذا الانزياح الوجودي على مستوى التاريخ والمجتمع. 

وحين تلتقي الثورة بالشعر،تتولد طاقة خلاقة قادرة على اختراق الواقع وإعادة تشكيله وفق رؤية جمالية أخلاقية.لكن هذا اللقاء يحتاج إلى وعي عميق باستقلالية الشعر وشعريته،وإلا تحول إلى مجرد استغلال سياسي يفتقر إلى العمق والاستمرارية.

في النهاية،يبقى الشعر والشاعر والثورة أطرافاً في حوار وجودي دائم،حوار يمس أسئلة المعنى والوجود،ويبحث عن الخلاص الفردي والجماعي في عالم يزداد تعقيداً وإشكالية..

 

 

شاركها.