خرج الدكتور يوسف الكودة، القيادي السابق في الحركة الإسلامية ورئيس حزب الوسط الإسلامي، باعترافات نادرة حمل فيها الإسلاميين مسؤولية الانهيار السياسي والاقتصادي الذي أصاب السودان. وأقر الكودة بأن مشروع التمكين الذي تبنّاه نظام الإنقاذ حوّل الخدمة المدنية إلى أداة للإقصاء والانتقام..
التغيير:متابعة: خالد أبو أحمد
في حديثٍ صريحٍ وغير مسبوق خرج الدكتور يوسف الكودة، أحد رموز الحركة (الإسلامية) السودانية ورئيس حزب الوسط الإسلامي السابق، باعترافاتٍ مدوّية حمّل فيها الإسلاميون مسؤولية ما آلت إليه البلاد من انهيارٍ سياسي واقتصادي، مقرًّا بأن سنوات حكم الإنقاذ مثّلت ذروة الفساد والتسلّط على مؤسسات الدولة، وأن مشروع التمكين الذي تبنّاه النظام حوّل السودان من دولةٍ كانت تملك واحدة من أفضل الخدمات المدنية في العالم العربي إلى كيانٍ هشٍّ يعاني الفوضى والانهيار الإداري والأخلاقي.
جريمة في حق الوطن
وقال الكودة في مقطع مصوّر كان يرد فيه على زميله عمار السجاد، وتم تداوله على نطاقٍ واسع “أن المؤتمر الوطني دمّر الخدمة المدنية، وشرّد خيرة أبنائها، مؤكدًا أن ما حدث كان جريمة مكتملة الأركان في حق الوطن”، مضيفا بصوتٍ يملؤه الأسى” الخدمة المدنية في السودان كانت من أفضل النظم في الوطن العربي، لكننا دمرناها بأيدينا، في غضون عامين فقط من استلامنا الحكم عام 1989 فصلنا ستمائة ألف موظف، تصوّروا هذا الرقم. لقد كانت مجزرة إدارية كاملة بدعوى التمكين السياسي”، وأوضح أنّ هذا التمكين الذي رُفع شعارًا للإصلاح كان في جوهره وسيلة للإقصاء والانتقام وإحلال الولاء مكان الكفاءة.
مشكلات منهجية
وتابع الكودة حديثه قائلاً “إنّ لجنة التمكين في عهد الإنقاذ ارتكبت الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها لاحقًا لجنة إزالة التمكين بعد سقوط النظام”، موضحًا “أن المشكلة لم تكن في الأسماء، بل في النهج ذاته، إذ تحوّل العدل إلى انتقام والسياسة إلى تصفية حسابات”، وأضاف “الإنقاذ فصلت الناس بلا لجان عادلة ولا محاكمات، وجاءت لجنة إزالة التمكين، وكررت الفعل نفسه. غاب القانون في الحالتين، وضاعت الحقوق بين الشعارات”.
وأشار يوسف الكودة إلى “أنّ المفارقة المؤلمة أنّ الشعارات كانت تُرفع باسم الدين والإصلاح، بينما الممارسات تناقض كل قيم العدالة التي جاءت بها الرسالة الإسلامية”.
فساد الانقاذ
وفي اعتراف لافتٍ آخر، أكد الكودة “أن الفساد تغلغل في مؤسسات الدولة بطريقةٍ غير مسبوقة، ولم يكن مجرد تجاوزات فردية، بل منظومة متكاملة لحماية النفوذ والسلطة، وأن الفساد الذي أفسدناه لا يخفى على أحد، لقد استباح الإسلاميون المال العام، ووزّعوا المناصب كغنائم، وكانوا مستعدين لأن يضحوا بثلاثة أرباع الشعب السوداني في سبيل البقاء في الحكم والسيطرة على الاقتصاد والثروات”.
وأضاف الكودة “أنّ هذه الذهنية السلطوية هي التي قادت إلى إهدار طاقات البلاد ومواردها، وأفقدت المشروع الإسلامي أيّ مصداقيةٍ أخلاقيةٍ أو فكرية”.
واستعاد الكودة في حديثه بعض المحطات الدامية التي رافقت بدايات الإنقاذ، مثل إعدامات الطيار جرجس والتاجر مجدي، مؤكّدًا أنّ تلك القرارات نُفذت دون محاكمات عادلة، وأنها شكّلت وصمة عارٍ في تاريخ الحركة الإسلامية.
أعدمنا الناس دون حق
وقال بأسى واضح “أعدمنا أناسًا دون وجه حق، فقط لتثبيت هيبة النظام. كان ذلك ظلمًا صريحًا ندفع ثمنه اليوم جميعًا، أنّ ما ارتكبه النظام لم يكن أخطاءً عابرة، بل جرائم سياسية وأخلاقية أضاعت سمعة السودان وأرهقت ضمائر أبنائه.
ولم يُوفر الكودة القادة التاريخيين من النقد، إذ وجّه سهام لومه إلى قيادات الصف الأول في الحركة الإسلامية، وعلى رأسهم الشيخ علي عثمان محمد طه، معتبرًا أنّ الجميع يتحمل المسؤولية عمّا وصل إليه السودان من دمارٍ شامل.
وقال: “حتى شيخنا علي عثمان نفسه تحدّث عن الخراب الذي أحدثه المؤتمر الوطني في الخدمة المدنية. نحن جميعًا مسؤولون، لا أحد بريء. كنّا نرى الفساد ونصمت، نبرّره بالتمكين والدعوة، فصار وبالًا علينا وعلى الوطن، وأنّ مؤشرات الانهيار الاقتصادي وحدها تكفي دليلاً على فشل المشروع، الدولار الذي كان يساوي أربعة جنيهات عام 1989 صار اليوم بألف جنيه، وهي نتيجة طبيعية لسنواتٍ من الفساد وسوء الإدارة وانفصال الجنوب ونهب الثروات العامة.
وقفة مع الضمير
وفي ختام حديثه المؤثر، دعا يوسف الكودة (الإسلاميين) إلى وقفة ضمير ومراجعة عميقة للذات قبل فوات الأوان، مؤكدًا أنّ التوبة السياسية والأخلاقية هي الطريق الوحيد لإنقاذ ما تبقى من السودان. وقال “ينبغي أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب أمام الله. لقد ضيّعنا السودان وضيعنا الشعب والكرامة والثروات. فلنراجع مسيرتنا ونصحح أخطاءنا قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.” وختم قائلاً “القبر لا يحمل معك المناصب ولا الأموال، بل أعمالك وأقوالك، فحاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فالحساب أقرب إليك من حبل الوريد.”
بهذه الشفافية النادرة، وضع يوسف الكودة نهايةً لجدار الصمت الذي ظلّ يحيط بقيادات الإسلاميين لسنوات، لتتحول كلماته إلى شهادةٍ سياسيةٍ وأخلاقيةٍ مؤلمة عن تجربةٍ ما زال السودان يدفع ثمنها حتى اليوم، تجربةٍ رفع أصحابها شعارات الدين والوطن، فكانت النتيجة ضياع الاثنين معًا.
لمشاهدة المقطع المصور تجده على الرابط أدناه..
https://www.facebook.com/reel/625477717226045
المصدر: صحيفة التغيير