أمد/ في خضم الأزمة المستمرة التي يعيشها قطاع غزة، حيث لم يلتقط أحد أنفاسه بعد من تحت ركام الحرب ووطأة الدمار، يطلّ تهديد آخر لا يقل خطورة عن العدوان الخارجي، يتمثل في انقسامٍ داخلي يضرب بنية القيادة في حركة حماس.

ففي الوقت الذي يتطلع فيه الفلسطينيون إلى مخرج من الحصار والتجويع، تبدو الحركة غارقة في خلافٍ داخلي يتجاوز التباينات الإدارية إلى أزمة في الرؤية والمصير.

تكشف المعطيات الأخيرة عن تصاعد خلافات حادة بين جناحين داخل الحركة: الأول، يمثل ثقل الميدان في غزة ويقوده قياديون يمنحون الأولوية للسيطرة المحلية والتعامل مع تبعات الحصار اليومية. والثاني، جناح الخارج الذي يتركز في الدوحة، ويرى أن إدارة المرحلة تقتضي الانخراط في حسابات إقليمية أوسع وتأمين دعم سياسي واقتصادي دولي.

ما كان يُدار في السابق داخل الغرف المغلقة، خرج اليوم إلى العلن عبر بيانات متبادلة وتصريحات حادة على المنابر الإعلامية، في مشهد يعكس عمق الشرخ داخل التنظيم.

ليست المسألة مجرد صراع على النفوذ؛ بل خلافٌ حول تعريف المرحلة ذاتها: هل المطلوب إعادة تثبيت حكمٍ قائمٍ في غزة أم إعادة تموضعٍ لحماس في المشهد الفلسطيني والإقليمي؟ هذه الجدلية تكشف أن الحركة تواجه مأزقًا مزدوجًا: صمودًا ميدانيًا يفرض أعباءً متزايدة على الداخل، وضغوطًا سياسية تحاصر قيادتها في الخارج بين توازنات العواصم وحسابات الميدان.

التجاذب لا يقف عند حدود الرؤية السياسية، بل يمتد إلى الجوانب المالية والإدارية، حيث تتداول أوساط حمساوية اتهامات متبادلة حول إدارة الموارد وتوزيعها. وفي ظل غياب موقف رسمي واضح، تتحول هذه الاتهامات إلى مادة تُغذي الشكوك وتُضعف الثقة العامة، في وقتٍ يبحث فيه الفلسطينيون عن بارقة أمل لا عن مزيدٍ من الانقسام.

إن تفاقم هذا الخلاف يُربك الوسطاء الإقليميين الذين يسعون إلى تثبيت هدنة طويلة أو إطلاق مسارٍ سياسيٍّ يخفف الضغط الإنساني عن القطاع. فحين تفتقر القيادة إلى صوتٍ موحد، يصبح من الصعب تقديم التزامات واضحة، الأمر الذي تستفيد منه إسرائيل للمناورة والتملص من استحقاقاتها، سواء في ملف الأسرى أو في ترتيبات ما بعد الحرب.

لا شك أن الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية شرطٌ لأي مفاوضات ناجحة. فالحروب لا تُدار فقط بالسلاح، بل بوحدة القرار. الانقسام الراهن داخل حماس يهدد بتقويض ما تبقى من أوراق القوة الفلسطينية، ويُبقي غزة في دائرة “الجمود المتفجر”؛ وضعٌ لا هو حربٌ شاملة ولا سلامٌ ممكن، بل انتظارٌ مرير بين جولتين.

قد يكون من الطبيعي أن تختلف الرؤى بين قيادات الداخل والخارج، لكن الخطر يكمن في أن يتحول الخلاف إلى ساحة استنزافٍ تنظيمي وسياسي. فحين تتراجع الثقة داخل الصف الواحد، تتآكل القدرة على الصمود، ويتحول النقاش حول “من يقود” إلى عبءٍ على من يقاتل.

إن اللحظة التي يعيشها القطاع اليوم لا تحتمل ترف الانقسام. فالحفاظ على وحدة القرار الوطني بات ضرورة وجودية، لا خيارًا سياسيًا. فالشعب الذي صمد تحت القصف ينتظر قيادةً تُعيد بناء ما تهدم، لا أن تدخل في سباقٍ على الشرعية فالوحدة، في هذه اللحظة، ليست شعارًا، بل شرطٌ للبقاء.

شاركها.