أمد/ تعد تجربة جنوب إفريقيا في التحرر من نظام الفصل العنصري نموذجًا فريدًا في مسارات النضال الوطني، إذ انتقل المؤتمر الوطني الإفريقي من الكفاح المسلح إلى العمل السياسي والدبلوماسي، وصولًا إلى تأسيس دولة ديمقراطية متعددة الأعراق عام 1994. هذا التحول يعكس درسًا جوهريًا: المقاومة ليست وسيلة واحدة، والتحول الاستراتيجي قد يكون الطريق الأضمن لتحقيق الحرية والعدالة.
في بدايات الصراع، لجأ المؤتمر الوطني الإفريقي إلى المقاومة المسلحة بعد أن سد النظام العنصري كل أبواب العمل السياسي السلمي. لكن مع تغير الظروف الدولية وضغط المقاطعة الاقتصادية والسياسية، بدأت قيادة الحركة تدرك أن استمرار الصراع المسلح وحده لن يحقق النصر، بل قد يؤدي إلى استنزاف الشعب وإطالة أمد القمع. وبالتوازي، بدأت اتصالات سرية مع النظام العنصري، وصلت رسائلها إلى نيلسون مانديلا في سجنه، فاقتنع بعد حوارات طويلة بأن الانتقال من السلاح إلى المفاوضة السياسية أصبح ضرورة استراتيجية.
مع تصاعد الضغوط الدولية وتزايد عزلة النظام داخليًا وخارجيًا، أعلنت الحركة تعليق العمل العسكري عام 1990، ما مهد لبداية مرحلة التفاوض التاريخية التي أسفرت عن إطلاق سراح مانديلا وقيام الدولة الديمقراطية بعد أربع سنوات. لقد أظهرت تجربة جنوب إفريقيا أن النصر الحقيقي يتم عبر توظيف الاستراتيجية السياسية والحكمة، وليس فقط بالقوة العسكرية.
اليوم، تواجه حركة حماس تحديات مشابهة في ظل حرب إبادة شنتها إسرائيل على غزة منذ أكتوبر 2023، والتي خلّفت دمارًا واسعًا ومعاناة إنسانية غير مسبوقة. هذه الحرب الفاصلة أظهرت حدود القوة العسكرية وحدها، وأعادت طرح سؤال التحول السياسي كخيار استراتيجي، تمامًا كما كان الحال مع المؤتمر الوطني الإفريقي. فالحفاظ على الحق في المقاومة لا يتعارض مع استكشاف أدوات سياسية ودبلوماسية جديدة لتحقيق مكاسب وطنية حقيقية.
وقد تأثرت شخصيًا بتجربة النضال في جنوب إفريقيا، منذ مشاركتي في التظاهرات الطلابية ضد نظام الأبارتهايد خلال دراستي في الولايات المتحدة، ثم خلال زيارتي إلى جنوب إفريقيا للمشاركة في ورشة عمل أكاديمية قبل شهر من حرب الإبادة على غزة، حيث التقيت عددًا من قيادات المؤتمر الوطني وبعض رموز الأقلية البيضاء (الأفريكانرز). هذه اللقاءات أكدت لي أن التحول من الكفاح المسلح إلى السياسة ليس تنازلاً عن المبادئ، بل خطوة استراتيجية نحو تحقيق الحرية والعدالة.
تقدم تجربة مانديلا لحماس والعالم العربي دروسًا بالغة: ضرورة المراجعة الذكية للوسائل، توحيد الصف الوطني، كسب الدعم الدولي، وبناء مشروع تحرر قائم على العدالة والمساواة، لا على الانتقام أو الانقسام. وهي تتيح النظر إلى المقاومة على أنها فعل حضاري وإنساني قبل أن تكون عملًا عسكريًا.
ربما آن الأوان لحماس لتعيد تعريف مقاومتها في ضوء هذه التجارب: الحفاظ على صمود الشعب، واستثمار الزخم الشعبي، وتحويل تضحيات غزة إلى رصيد سياسي ودبلوماسي قادر على فتح أبواب العالم للحرية والاستقلال. فكما نجحت جنوب إفريقيا في كسب ضمير العالم، يمكن للفلسطينيين أن يجعلوا من نضالهم نموذجًا عالميًا للتحرر والعدالة، يجمع بين القوة والذكاء السياسي، وبين المقاومة والحوكمة الوطنية.
