ما ستقرؤنه ليس مجرّد تحليل سياسي، بل كشفٌ لما يُعدّ في الملفات السرية من أخطر مخطط ضد القدس منذ احتلالها عام 1967. مشروع أميركي إسرائيلي يتسلل بهدوء عبر الكونغرس، عنوانه الحرية الدينية، وهدفه الحقيقي دفن اتفاقية وادي عربة والقدس إلى الأبد .
 في أروقة الكونغرس الأميركي، يجري إعداد مشروع قانونٍ يُمكن وصفه بأنه أخطر ما واجه القدس من مخططات، ما يبدو في العلن دعوة إلى حرية العبادة المتساوية في الحرم القدسي الشريف، هو في جوهره عملية تفكيك ممنهجة للوضع القائم واستهداف للوصاية الأردنية الإسلامية التي نصّت عليها اتفاقية وادي عربة عام 1994. المشروع، المدعوم من جناحٍ جمهوري موالٍ لليمين الإسرائيلي، يقوده عضوا الكونغرس كلوديا تيني وكلاي هيغينز، لكن بصمات مكتب بنيامين نتنياهو واضحة في كل سطر من نصوصه.
إنتبهوا ، المبادرة التي تروّج لـحق الشعب اليهودي في الصلاة داخل جبل الهيكل ليست خطوة رمزية، بل بداية تنفيذٍ لخطة أوسع من الباب الخلفي، وتحويل القدس إلى منطقة سيادة إسرائيلية مطلقة. إنها حرب سياسية ناعمة تُشنّ بإسم الحرية، لكنها موجهة بدقة نحو دفن آخر حضور عربي رسمي في القدس..
الهدف غير المعلن لنتنياهو من هذا المشروع لا يتعلق بالدين أو بالمساواة، بل بالسياسة والهيمنة. الرجل يسعى إلى نزع الشرعية السياسية عن الدور الأردني مهما كان، لأنه يشكّل العائق الأخير أمام مشروع التهويد الكامل للحرم القدسي. الوصاية الأردنية، التي منحها القانون الدولي صفة الحماية للمقدسات الإسلامية، تُذكّر العالم بأن القدس ليست إسرائيلية بالكامل، وأن هناك شريكًا عربيًا يُشرف على أكثر موقعٍ حساسية في المنطقة.و هذا بالنسبة لنتنياهو ثغرة سيادية يجب إغلاقها بأي ثمن، حتى لو اضطر لتمزيق بنود معاهدة سلام قائمة منذ ثلاثة عقود .

و منذ سنوات، يعمل نتنياهو على ثلاث مراحل متكاملة، كانت أولها، إضعاف الأوقاف الإسلامية عبر التضييق الأمني وتقليص صلاحياتها. وثانيها، تطبيع الوجود اليهودي داخل الحرم عبر اقتحاماتٍ متكررة يقودها وزراء وحاخامات بحماية الشرطة.وثالثها، شرعنة هذا الوجود سياسيًا عبر الكونغرس الأميركي تحت شعار حرية العبادة. هذه المرحلة الثالثة هي ما نشهده الآن، وهي الأخطر لأنها تُحوّل السيطرة الميدانية إلى غطاءٍ قانوني أميركي ودولي.
اذن تقولون ما الذي يريده نتنياهو تحديدًا؟ يريد أن يُنهي ملف القدس قبل أي مفاوضات مستقبلية، وأن يفرض على العالم واقعًا لا يمكن التراجع عنه، القدس الموحدة تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة. بهذه الطريقة، يُغلق الباب أمام أي بحثٍ في الوضع النهائي أو القدس الشرقية، ويجعل من اتفاقية وادي عربة نصًا ميتًا، بلا معنى ولا نفوذ.
الأردن، في هذه المعادلة، يتحول من إلى جارٍ صامت، بلا قدرة على الإعتراض.

لكن وراء هذه الأهداف السياسية تكمن نوايا أعمق وأخطر. نتنياهو، المحاصر داخليًا، والذي يبحث عن إنجازٍ تاريخي يخلده في ذاكرة اليمين الديني المتشدد. يطمح إلى أن يُذكر كرجل استعاد جبل الهيكل لليهود. إنه يسعى لتقديم نفسه كبطل العقيدة، لا كزعيم دولة، مستفيدًا من تزاوج غير مسبوق بين الصهيونية السياسية والإنجيلية الأميركية.
المشروع الذي يتحرك في الكونغرس هو، في أحد وجوهه، تحالف ديني سياسي عابر للحدود نتنياهو يمنح اليمين المسيحي الأميركي تحقق النبوءة، ويمنح نفسه غطاءً إلهيًا لضمّ الحرم. في المقابل، يحصل على دعم جمهوري لا يتزعزع قبل الانتخابات الأميركية المقبلة.
اللغة المستخدمة في المشروع تُخفي سمًّا سياسيًا قاتلًا. فهي تتحدث عن أن المسلمين يدخلون من إحدى عشرة بوابة بينما يُسمح لليهود والمسيحيين بواحدة فقط، ما يخلق انطباعًا بتمييزٍ ديني ضد غير المسلمين. لكن الحقيقة أن ما يُراد هو قلب المعادلة، تحويل الحرم من فضاءٍ إسلامي خالصٍ إلى موقعٍ مشتركٍ ثم إلى موقعٍ يهوديٍّ أولًا. أي أن إسرائيل لا تريد مساواة، بل شرعية لإحتلالها، مغلفة بخطابٍ إنساني خادع.والعرب مغيبون.
أما أخطر ما في هذا التحرك، فهو أنه يُنفّذ ببطءٍ ودهاء. فنتنياهو لا يريد تفجير الأزمة علنًا، بل أن يُنجزها على مراحل، تمرير قرار الكونغرس كتصريح دعمٍ رمزي ثم استخدامه كذريعة لفرض سيادة أمنية موسّعة في الحرم ثم إعلان أن الواقع الجديد أثبت نجاحه في حفظ الأمن والحرية الدينية. وهكذا، دون إطلاق رصاصة، يتحول الاحتلال إلى سيادةٍ شرعية، والوصاية العربية إلى ذكرى..
النتائج المحتملة كارثية. تمرير هذا المشروع سيُفجّر صراعًا إقليميًا ودينيًا لا يمكن احتواؤه. والفلسطينيون في القدس والضفة سيعتبرونه إعلان حرب على هويتهم وهوية مدينتهم. في المقابل، ستستغل إسرائيل أي احتجاجٍ عربي لتقول للعالم، ها نحن ندافع عن الحرية ضد التطرف الإسلامي. إنها لعبةٌ ذكية بقدر ما هي شيطانية، مصمَّمة لتقديم إسرائيل كضحية في الوقت الذي تسرق فيه المفاتيح الروحية للمدينة.
الحقيقة التي لا يريد أحد في واشنطن أو تل أبيب الاعتراف بها هي أن المشروع وثيقة لتصفية آخر ما تبقّى من السيادة العربية والإسلامية في القدس. إنّه انقلاب هادئ على التاريخ، يجري بإسم التسامح، لكنه يهدف إلى إلغاء كل أثرٍ عربي في الحرم القدسي.
قد يمر هذا المشروع دون ضجيج إعلامي كبير، لكن يوم يُقرّ، لن يكون في القدس شيء كما كان. ستبدأ المرحلة التي طالما حلم بها نتنياهو، مرحلة السيادة الكاملة على الحرم الشريف. إنها لحظة خطيرة، لا تقتصر على السياسة، بل تهدد بتغيير روح المدينة التي كانت دائمًا مقياس العدالة على وجه الأرض…
كاتبة سياسية من الأردن

شاركها.