تشتعل الأسئلة في الذهن حين يطلّ فيلم “مكان تحت الشمس”، كمرآة حارقة تعكس صراع الإنسان بين الحلم والقدر، وبين الطموح والذنب. وتزرع مشاهد الفيلم في القلب رجفة لا تهدأ، وتدفعك لتسأل: إلى أي مدى يمكن أن نبيع أرواحنا من أجل مجد زائل؟ وكيف يحوّل الطموح المفرط النور إلى عتمة؟ وتغرس القصة أنيابها في أعماقك، فتراك تمشي على خيطٍ رفيع بين الحب والخيانة، وبين الشفقة والرغبة، وكأنك تسمع همس الجملة التي خلّدها الزمن: “هناك مكان تحت الشمس لكل إنسان… لكن بثمنٍ قد لا يحتمله القلب”.

بين الممكن والمرغوب

أخرج المخرج جورج ستيفنز فيلمه الخالد A Place in the Sun، (1951/ المدة 122 دقيقة) عن روايةAn American Tragedy لثيودور درايزر، مقدّمًا واحدًا من أكثر الأفلام الأمريكية عمقًا من حيث البنية النفسية والجمالية. وقد جمع الفيلم بين مونتغمري كليفت وإليزابيث تايلور وشيلي وينترز، ولم يكن مجرد ميلودراما عن الحب والخيانة، بل مرثية مؤلمة عن الصراع بين الطبقات، وعن الحلم الأمريكي حين يتحول إلى كابوس بطيء الغرق.

ويبدأ كل شيء مع جورج إيستوود، الشاب الفقير الذي يصل إلى المدينة محملًا بأحلام الصعود الاجتماعي، وينظر إلى اللافتات، إلى المصانع، وإلى السيارات، كمن يتأمل سلّمًا نحو الجنة. غير أن الجنة في هذا الفيلم لها أبواب لا تُفتح إلا لمن يملكون مفاتيح المال والاسم. ويجد جورج وظيفة متواضعة في مصنع عمه، وهناك يلتقي أليس، الفتاة البسيطة التي تؤدي دورها شيلي وينترز ببراعة آسرة، تجمع بين الطيبة والاختناق. في لحظة ضعف عاطفي تقع بينهما علاقة سرية، لكنها علاقة لا تنتمي إلى الحلم الذي يطارد جورج؛ وحين يدخل عالم الأثرياء ويلتقي أنجيلا، ابنة الطبقة المخملية (إليزابيث تايلور)، يبدأ الصراع الحقيقي بين ما هو ممكن وما هو مرغوب، بين الرغبة والطموح، وبين القلب والهوية.

ولا تمثل السينما هنا مجرد سرد للأحداث، فهي لغة الضوء والظل. ويستخدم جورج ستيفنز الكاميرا كأداة للتحليل النفسي، فتتحول الوجوه إلى خرائط للاضطراب الداخلي. وفي مشاهد جورج مع أليس الضوء خافت، الألوان رمادية، الإطار ضيق حتى الاختناق، كما لو أن الكاميرا تحاصر الحلم الصغير في زوايا الغرفة؛ أما حين يكون مع أنجيلا ينفتح الفضاء، يلمع الماء، تشرق الإضاءة على وجوههما. المكان نفسه يصبح معادلًا بصريًا للطبقة الاجتماعية، والعدسة تنحاز بوعي إلى التفاوت بين عالمين.

والمشهد الذي يجلس فيه جورج على بحيرة مع أليس هو قلب الفيلم النابض، حيث الصمت، ارتعاش الماء، النظرة الحائرة بين الخوف والرغبة، تجعلنا أمام سؤال قاتل: هل التفكير في الجريمة هو جريمة في حد ذاته؟ وحين تقول له أليس بصوت متردد: “لا أستطيع العيش وحدي يا جورج”؛ ترتجف الكاميرا كما لو أنها تتنفس معه. وتختزل هذه الجملة مأساة الفيلم بكاملها: التبعية والخوف والوحدة، لا أحد في هذا العالم يستطيع العيش وحده، لكن العيش مع الآخر قد يكون أيضًا موتًا بطيئًا.

ويصور على المستوى النفسي ستيفنز الانقسام الداخلي كبنية درامية. ولا يمثل جورج قاتلًا بالفطرة، فهو إنسان يواجه ضغطًا طبقيًا لا يرحم. وفي لحظة واحدة يصبح الحب عبئًا، والمكان عبوة موقوتة. ويتكرر مشهد الماء بصريًا طوال الفيلم، ويتحول إلى رمز للغرق الأخلاقي. وفي المشهد الأخير، حين يعترف جورج بجريمته، يبدو كأنه يعترف أمام نفسه لا أمام المحكمة، ويقول بصوت خافت: “لم أقتلها، لكني لم أنقذها”. وتحمل هذه الجملة مأساة الإنسان الذي لم يجد لنفسه مكانًا تحت الشمس، لأن الشمس ذاتها كانت حكرًا على من وُلدوا في ضوئها.

بين السلطة والرغبة

العلاقات بين الشخصيات والمكان ليست مصادفة، فهي شبكة دقيقة من السلطة والرغبة. ويرمز المصنع كفضاء مغلق إلى القهر الطبقي، والمنزل الريفي فضاء للطموح الزائف، أما البحيرة ففضاء الوعي المظلم. ويفتح كل مكان طبقة جديدة من الذات. وتمثل أنجيلا الوعد بالحياة، وأليس عبء الواقع، وجورج يتمزق بينهما كما بين صورتين في مرآة مكسورة.

ومن الناحية الجمالية يتجاوز الفيلم أسلوب الواقعية الاجتماعية ليقترب من الشاعرية البصرية. وتشبه الإضاءة المتناقضة بين النور والعتمة صراع النفس بين الرغبة والخوف. وتصعد الموسيقى التصويرية وتهبط كأنها تنسج مناخًا وجوديًا يسبق الكلمة. ولا تراقب الكاميرا فقط، فهي تشارك في الصراع، وتتنفس مع الشخصيات، وتقترب من وجوههم في لحظات الذنب والرغبة حتى تبدو كأنها تلامس أفكارهم.

ولا يتركنا الفيلم أمام جريمة وحكم بالإعدام، وإنما أمام أسطورة إنسانية عن العجز عن الانتماء. ولا يؤسس فيلم “مكان تحت الشمس” مجرد عنوان، فهو استعارة قاسية عن إنسان يمد يده نحو الضوء فيحترق. وما فعله جورج ستيفنز في هذا الفيلم هو أنه جعل المأساة الاجتماعية تبدو كأنها حلم ضائع داخل مرآة، وجعل من الحب خطيئة ومن الطموح لعنة. وحين ينطفئ الضوء في المشهد الأخير نشعر بأن الشمس نفسها لم تعد تشرق كما كانت.

مأساة الطموح والعطب الإنساني

يُشعل فيلم A Place in the Sun للمخرج جورج ستيفنز نار الأسئلة القديمة الجديدة حول الإنسان ورغبته المحمومة في تجاوز طبقته، وفي ملامسة الضوء مهما كانت كلفة الاحتراق. ويقدّم البطل جورج إيستمان، الذي جسّده مونتغومري كليفت، صورة مركّبة لإنسان ينبت من تربة الفقر وهو يحمل في عينيه حلم الثراء والقبول؛ ويرسم المخرج ملامحه ببطء، فيجعل جسده يتبرّم من قيود الواقع، ويجعل لغته تتلعثم بين التمنّي والخوف، وكأن كل حركة منه محاولة للهروب من رائحة الفقر التي التصقت بجلده منذ المهد.

ويبدأ جورج رحلته باحثاً عن مكانه في مجتمع لا يرحم الفقراء، متسلحاً بوسامته الهادئة وذكائه الحذر، وتضعه الصدفة في قلب عائلة ثرية، وهناك يبدأ الجسد في التململ أكثر، وتبدأ اللغة في الانقسام بين التواضع المصطنع والحلم المكبوت. ويبتسم جورج كثيراً، ويخفي داخل ابتسامته وضعا مريرا، لكنه لا يتنفس بحرية؛ وينحني باحترام، لكنه يختزن تمرداً يتأجج تحت جلده، وكأن جسده كله يصير ساحة صراع بين ما هو عليه وما يريد أن يكونه. وحين تهمس أنجيلا، التي أدّتها إليزابيث تايلور، قائلة: “يبدو أنك لا تنتمي إلى أي مكان… حتى عندما تكون معي”، يتجمد الزمن في نظرة البطل، تلك النظرة التي تختصر مأساة الانتماء المعلق بين عالمين.

ويُصوّر ستيفنز الصراع الطبقي بانسياب بصري مدهش، فيمزج الفخامة بالظلال، والترف بالاختناق. ويبني المشاهد بين الجداريات الصناعية الباردة والقصور المضيئة، ليكشف كيف يُعاد إنتاج الطبقية تحت ستار الجمال والحلم. وتتدلى على الشاشة وجوه العمال الفقراء كأطياف منسية، بينما يلمع عالم الأثرياء كالسراب. وهكذا يتحوّل الحلم بالترقي الاجتماعي إلى لعنة، وتبتلع روح البطل وتدفعه نحو الجريمة، لا بدافع الشر، وإنما بدافع اليأس من البقاء على الهامش.

وتتجسد حساسية جورج في كل ارتعاشة، في كل نظرة تُفضح فيها هشاشته أمام عظمة الحلم، ويتكلم بصوت منخفض كمن يخاف من سماع صدى كلماته، وتغدو لغته مرآةً لاضطراب داخلي لا يهدأ؛ وحين يقول: “كنت أريد فقط أن أكون شخصاً يُنظر إليه كما يُنظر إلى الآخرين” نسمع خلف العبارة أنين ملايين المقهورين الباحثين عن اعتراف، لا عن ثروة فحسب.

ويستدرج الفيلم المشاهد إلى عمق المأساة دون افتعال، فيجعل الجريمة الأخيرة ذروة منطقية لصراعٍ بدأ منذ اللحظة الأولى التي حلم فيها جورج بأن يجد مكانه تحت الشمس. ويتخذ المخرج من الماء مرآة رمزية للغرق الطبقي، فحين ينقلب القارب لا يغرق البطل فحسب، بقدر ما يغرق الحلم نفسه، ويُغسل بالذنب كل ما تبقّى من طموح.

وتتداخل في الفيلم الأبعاد الاجتماعية بالرمزية، فيتحوّل الضوء إلى استعارة للسلطة، والماء إلى تطهير مؤلم، والحب إلى فخّ من حرير. ويربط ستيفنز بين المأساة الفردية والبنية الطبقية للمجتمع الأمريكي منتصف القرن العشرين، ليقول لنا إن الفقر ليس حالة مادية فقط، فهو يمثل قيداً روحياً يلتفّ حول الحلم حتى يخنقه.

وعندما يهمس جورج في المشهد الأخير: “ربما كنت أستحق هذا المصير، لأنني أردت أكثر مما يحق لي” يكتمل الانكسار، وينحني الرأس، ويصمت الجسد الذي ظلّ يرفض الانحناء. وهنا يترك الفيلم المشاهد أمام مرآة ذاته، متسائلاً: كم من الأحلام تُولد نقية وتنتهي مجرمة؟ وكم من الأرواح تموت وهي تحاول فقط أن تجد مكانها تحت شمسٍ لا ترحم؟.

ينتهي الفيلم ولا تنطفئ الأسئلة، بقدر ما تشتعل مجدداً في روحك كجمرةٍ لا تخمد، وتتابع الشخصيات وهي تذوب في ذاكرة السينما، وتدرك أنك شاهدت أكثر من قصة حب مأساوية؛ لقد رأيت وجهاً آخر للحلم، ذاك الحلم الذي يبتلع أبناءه باسم النجاح، وتسترجع نظرات البطل الأخيرة، وتفهم أن النور لا يُمنح لمن يطعن بالظلال كي يبلغه، ويهمس الفيلم في أذنك أخيراً: “ليس كل من يقف في الشمس يجد الدفء، فبعض الضوء يحرق أكثر مما ينير”.

المصدر: هسبريس

شاركها.