أكد السفير السوداني لدى البلاد، عوض الكريم الريح بلة، أنه في ظل موجة الإدانات الدولية المتصاعدة للمجازر المروّعة التي شهدتها مدينة الفاشر في إقليم دارفور بالسودان، برز الموقف الكويتي بوصفه الأوضح والأقوى بين بيانات التنديد الصادرة عن الدول والمنظمات الإقليمية والدولية، إذ عبّرت الكويت عن إدانتها الشديدة لما وصفته ب «الانتهاكات البشعة ضد المدنيين العُزّل»، مطالبةً ب «وقف فوري للعنف، واحترام القانون الدولي الإنساني، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين». وفي حوار خاص مع «»، أوضح الريح بلة أن «هذا الموقف لقي تقديراً واسعاً من الحكومة السودانية، التي رأت فيه تعبيراً صادقاً عن عمق العلاقات الأخوية بين البلدين، وموقفاً أخلاقياً نبيلاً يعكس ثوابت السياسة الكويتية القائمة على نصرة الإنسان والدفاع عن القيم الإنسانية»… وفيما يلي نص الحوار:

 

 

• كيف تصفون ما حدث في مدينة الفاشر خلال الأيام الماضية؟

ما جرى في الفاشر هو مجزرة بشعة بكل المقاييس، ترقى إلى جريمة إبادة جماعية موثقة بالأدلة والشهادات والمقاطع المصوّرة. ميليشيا الدعم السريع المتمردة الخارجة على القانون ارتكبت جرائم مروّعة بحق المدنيين العُزّل فور دخولها المدينة في 26 أكتوبر الماضي. لقد أُعدم المرضى داخل المستشفيات، وعلى رأسها المستشفى السعودي بالفاشر، الذي شهد مقتل نحو 500 مريض ومرافق بدم بارد. 

الكويت جسّدت الموقف العربي الأصيل بدعوتها لوقف العنف وحماية المدنيين

كما وقعت واحدة من أفظع المجازر، حيث قُتل أكثر من ألفي مدني أثناء محاولتهم الفرار من المدينة المنكوبة، وكانت عمليات التصفية تتم على أساس إثني واضح، وهو ما وثّقته منظمات الأمم المتحدة وشبكة إعلامية أخرى.

• تحدثت تقارير أممية عن «نمط من الهجمات الممنهجة بدوافع عرقية»، هل تؤكدون أن هناك استهدافاً إثنياً متعمداً؟

نعم، مع الأسف هذا صحيح. ما نراه في الفاشر ليس مجرد تجاوزات فردية، بل حملة إبادة ممنهجة تستهدف مكوناً اجتماعياً بعينه، وهو امتداد لما حدث قبل نحو عامين بمدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، عندما قتلت الميليشيا ما يزيد على عشرة آلاف من أبناء قبيلة المساليت، وأجبرت أضعافهم على اللجوء إلى شرق تشاد. 

وهناك تسجيلات مصوّرة، نشرها أفراد الميليشيا أنفسهم، تُظهر خطاباً عنصرياً مقيتاً وتحريضاً على القتل على الهوية. 

هذا النوع من الجرائم يذكّر العالم بمآسي رواندا والبوسنة، والمجتمع الدولي اليوم أمام اختبار أخلاقي حقيقي، فإما أن يتعامل مع ما يجري في الفاشر بوصفه جريمة ضد الإنسانية تستوجب المحاسبة، أو أن يكرر أخطاء الماضي حين صمت على مجازر مماثلة.

التحقيق والمحاسبة

• كيف تقيّمون موقف الأمم المتحدة والدعوات لفتح تحقيق مستقل في هذه الانتهاكات؟

نرحّب بأي تحقيق شفاف ومستقل، لكننا نؤكد أن مسؤولية التحقيق والمحاسبة تقع أولاً على عاتق الدولة السودانية، باعتبارها صاحبة الولاية القانونية على أراضيها.

نحن لا نرفض التعاون الدولي، بل ندعو إليه في إطار احترام السيادة الوطنية، ولكن يجب أن يكون واضحاً أن الحل ليس في تدويل الأزمة، بل في دعم مؤسسات الدولة السودانية لفرض القانون ومحاسبة المجرمين. 

والتحقيقات الدولية ضرورية لتوثيق الجرائم، لكنها لا يمكن أن تكون بديلاً عن العدالة الوطنية.

التدويل والتدخلات خارجية

• هناك من يرى أن هذه الدعوات للتحقيق والتدويل قد تفتح الباب لتدخلات خارجية جديدة في السودان… ما رأيكم؟

نحن نحذّر من ذلك تماماً. الحديث عن «التدخل الإنساني» يجب ألا يكون ذريعة لتقويض سيادة السودان. أين كانت هذه الأصوات عندما كانت الفاشر محاصرة لعامين كاملين، والناس يموتون جوعاً؟

الذين يطالبون اليوم بحماية المدنيين كان عليهم أن يضغطوا على الميليشيا لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 3627، القاضي بفك الحصار عن المدينة، لكنها رفضت ذلك، ولم يسائلها أحد!

نحن نرى أن خريطة الطريق التي طرحتها حكومة السودان هي الحل الواقعي الوحيد، وهي التي تضمن السلام والاستقرار دون تفكيك البلاد أو تدويل قضيتنا.

مأساة المستشفى السعودي

• تشير التقارير إلى أن المستشفيات كانت هدفاً مباشراً للهجمات، ما حقيقة ذلك؟

المأساة التي وقعت في المستشفى السعودي بالفاشر تفطر القلب. دخلت الميليشيا إلى المستشفى وأعدمت المرضى والمرافقين والأطباء. كانت الجريمة بدوافع عنصرية بحتة.

ما يحدث في الفاشر إبادة جماعية مكتملة الأركان وجريمة إنسانية تستوجب المحاسبة

لقد أكد مسؤولو الأمم المتحدة أن قوات الدعم السريع أظهرت نمطاً متكرراً من استهداف المرافق الطبية، ونهب سيارات الإسعاف، واغتصاب النساء في مراكز النزوح، بل وحتى مهاجمة العاملين في المجال الإنساني.

نحن نتحدث عن جرائم حرب مكتملة الأركان، ليس فيها أي مبرر عسكري أو سياسي، بل حقد دفين على الشعب السوداني.

• كيف تصف الوضع الإنساني في الفاشر الآن بعد هذه الأحداث؟

الوضع كارثي بكل ما تعنيه الكلمة. هناك ما بين 120 و250 ألف مدني عالقون داخل المدينة، بينهم أكثر من 130 ألف طفل، يعيشون في ظروف غير إنسانية، بلا غذاء أو دواء أو مأوى.

ومنظمة يونيسيف تحدثت عن أن الأطفال يموتون يومياً بسبب الجوع والمرض، والمستشفيات مدمرة، والمياه ملوثة، والأدوية نفدت.

لقد تحولت الفاشر إلى مركز للموت البطيء، والناس يعيشون على الأعشاب وأعلاف الحيوانات. إنها مأساة إنسانية يجب ألّا يصمت عليها أحد.

• هل هناك دور فعلي للدبلوماسية السودانية في كشف هذه الجرائم أمام المجتمع الدولي؟

نعم، الدبلوماسية السودانية تتحرك على كل المستويات. بعثاتنا في الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية وكذلك على المستوى الثنائي تبذل جهوداً متواصلة لتوضيح الصورة الحقيقية. نحن نواجه ماكينة إعلامية ضخمة تحاول تبرير جرائم الميليشيا أو تصويرها كطرف سياسي، بينما هي في الواقع تنظيم إرهابي مثلها مثل «داعش» و«بوكو حرام». قمنا بإعداد ملفات موثقة تتضمن صوراً وأشرطة فيديو وشهادات شهود عيان وتمليكها للمنظمات الدولية، لتكون أدلة دامغة على ما جرى. كما أن وزارة الخارجية السودانية أصدرت بيانات متتالية، نُسقت مع الدول الشقيقة والصديقة، لتوحيد الموقف ضد هذه الفظائع. وسعت إلى تصحيح الروايات المضللة القائمة على أن ما تشهده البلاد هو«صراع على السلطة» أو «حرب أهلية» أو «صراع بين جنرالين». 

الفاشر تعيش كارثة إنسانية… آلاف القتلى ومئات الآلاف محاصَرون بلا غذاء ولا دواء 

كما أنها عملت على تمليك السردية الحقيقية التي مفادها أن ما يشهده السودان هو حرب ضمن مخطط كبير، وهي تستهدف الشعب السوداني في وجوده وهويته وثرواته، إما بإخضاعه أو تهجيره. وأن الميليشيا والمرتزقة الذين جلبهم الفاعلون الحقيقيون من أصقاع الدنيا للقتال إلى جانبها، ما هم إلا أدوات يستخدمونها ضمن وسائل أخرى.

موقف الكويت الأقوى

• كيف تقيّمون الموقف الكويتي من هذه الأحداث؟

لقد كان بيان الكويت المندّد بما جرى من أقوى المواقف العربية والدولية، حيث إن الكويت دانت بشكل واضح وصريح المجازر التي ارتكبتها الميليشيا في الفاشر، وطالبت بوقف فوري للعنف، واحترام القانون الدولي الإنساني، وضمان وصول المساعدات إلى المدنيين.

هذا الموقف نبيل وأخلاقي، ويعكس ثوابت السياسة الكويتية القائمة على نصرة الإنسان والدفاع عن القيم الإنسانية ورفض الظلم والانتهاكات، وتقف دائماً إلى جانب الشعوب في محنها، مجسدة الموقف العربي الأصيل بدعوتها إلى وقف العنف وحماية المدنيين.ونحن في السودان نثمّن هذا الموقف عالياً، ونعتبره امتداداً للعلاقات التاريخية الراسخة بين البلدين، والتي تقوم على الأخوة الصادقة والتضامن الإنساني.

أضف إلى ذلك أن الكويت بقيت مساندة للسودان في المنابر الدولية والإقليمية وآخرها في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان في جنيف الشهر الماضي، حيث صوّتت الى جانب بلادي فيما يتعلّق بمشروع القرار الذي قدمته بريطانيا ودول النواة الغربية بشأن التمديد للجنة تقصّي الحقائق الدولية في السودان.

 

 

مستقبل السودان لن يكون للميليشيات

بشأن مستقبل دارفور والسودان، قال السفير السوداني إنه رغم كل المآسي، نحن مؤمنون بأن السودان سينهض من جديد، نعم، الجرح عميق، لكن الشعب السوداني أثبت صموده وقدرته على تجاوز المحن.

وأوضح عوض الكريم الريح بلة أن مستقبل السودان لن يكون للميليشيات، ولن يكون لمن تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، مشددا على أن الحل يكمن في تنفيذ خريطة الطريق الوطنية، التي تضمن وحدة البلاد، وتعيد بناء المؤسسة العسكرية على أسس مهنية، وتفتح باب العدالة والمصالحة. وتابع: أما من ارتكبوا هذه الجرائم في الفاشر وغيرها، فلا بُد أن يُقدَّموا للعدالة، محلياً ودولياً، مهما طال الزمن.

 

المصدر: جريدة الجريدة

شاركها.