صفاء الزين


صفاء الزين

لم يعد السلاح في السودان مجرد أداة حرب، إذ يتحوّل تدريجيًا إلى ظاهرة تهدد وجود المجتمع نفسه. وبدل أن يظل محصورًا في أيدي العسكريين، يُوزَّع اليوم على المدنيين والأطفال تحت شعارات “الاستنفار” و“القتال من أجل الوطن”. هذا التسليح الواسع يفتح أبواب الفوضى ويفكك ما تبقّى من الروابط الاجتماعية. ومع اتساع حملات التجنيد الجماعي، يصبح السلاح شرطًا للبقاء بعدما كان وسيلةً للدفاع، في مشهد يعكس عمق الأزمة وتحول المجتمع إلى فضاءٍ مسلح تحكمه المخاوف أكثر من القوانين.

ظاهرة انتشار السلاح لم تعد نتيجة انهيار أمني، وإنما تمثل سياسة غير معلنة لتعبئة المجتمع حول الحرب. فالدعوات إلى “الاستنفار العام” تشمل فئات عمرية غير مؤهلة للقتال، وتدفع مجموعات مدنية إلى حمل السلاح بحجة الدفاع عن الوطن أو الحي أو القبيلة. بهذا الشكل، ينتقل مركز العنف من المؤسسات النظامية إلى المجتمع نفسه، وتبدأ موازين القوة بالتشكل خارج إطار القانون.

هذا النمط من التسليح يعكس غياب رؤية وطنية لإدارة الصراع، حيث تتحول السلطة من ضامنٍ للأمن إلى طرفٍ يضاعف أسباب عدم الاستقرار. وهكذا يصبح السلاح عاملًا مباشرًا في تفكيك المجتمع، وسيلةً لترسيخ الفوضى عوضًا عن حماية الاستقرار.

مثل هذه الدعوات ليست من صنع العسكريين وحدهم، وإنما تقف وراءها أيضًا شبكات تجارة السلاح وكارتيلات الأزمات التي اغتنت ثراءً فاحشًا من استمرار النزاع وتسليح القبائل والمجتمعات المحلية. فهؤلاء جعلوا من الحرب سوقًا مفتوحًا ومن السلاح عملة نفوذٍ ومصدر رزقٍ دائم، وهم بطبيعتهم لن يسمحوا بوقف الحرب أو تجفيف منابعها، لأن مصالحهم ترتبط ارتباطًا عضويًا باستمرار تدفق الدم والسلاح. إنهم يقتاتون من الفوضى، ويملكون من القدرة المالية والإعلامية ما يمكّنهم من تأجيج الصراع وإجهاض أي محاولة جادة للتسوية. وهكذا تتقاطع مصالحهم مع كل من يسعى لإدامة الحرب تحت ذرائع الدفاع عن الوطن أو حماية الهوية، إذ الحقيقة أنهم يحرسون اقتصاد الحرب أكثر مما يحرسون أمن الدولة، ويصنعون من الانقسام الاجتماعي وسيلةً لتراكم الثروة والسلطة. كشف هذا البعد الخفي في معادلة التجييش الشعبي شرطٌ أساسي لأي معالجة واقعية للأزمة، فإيقاف الحرب لا يتحقق بإسكات البنادق وحدها، وإنما بكسر دائرة المصالح التي تجعل من الحرب مشروعًا اقتصاديًا وسياسيًا مستدامًا.

اتساع نطاق التسليح يفتح المجال أمام نمو أشكال جديدة من الجريمة المنظمة. فالمجموعات التي تحمل السلاح تحت مبررات الحرب تستخدمه في أنشطة النهب والخطف وتجارة المخدرات. ومع غياب القانون الفاعل، تتحول المدن والأحياء السكنية إلى فضاءات يسودها الخوف، وتتراجع قدرة المواطنين على حماية أنفسهم.

معالجة ظاهرة التسليح تتطلب رؤية شاملة تتجاوز فكرة جمع السلاح، فالقضية ترتبط بإعادة تعريف الأمن بحيث يقوم على حماية المجتمع ومصالحه العامة عوضًا عن تعبئته للقتال. كما تستلزم عملية طويلة لإعادة دمج المقاتلين وتأهيلهم، وبناء مؤسسات قادرة على إدارة الأمن بمسؤولية وعدالة.

الحد من هذه الظاهرة يبدأ بإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وإرساء مفهوم جديد للأمن يستند إلى العدالة والمواطنة المتساوية، ويستبدل منطق القوة بمنطق القانون. فالتسليح العشوائي يترك أثرًا عميقًا في المجتمع السوداني، ويساهم في إضعاف الروابط الاجتماعية وتوسيع دائرة الجريمة. واستعادة الأمن الحقيقي لا تتحقق إلا عندما يتوقف مسار العسكرة، ويُستعاد صوت العقل والحكمة في إدارة الأزمات.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.