أمد/ بينما تتواصل المذابح في قطاع غزة، ويتفاقم المشهد الإنساني في واحدة من أكثر الحروب وحشية في التاريخ المعاصر، تقف الصين في موقعٍ يصفه كثيرون بأنه “حياد ناعم”، لا يخلو من رسائل سياسية عميقة تعكس رؤيتها لعالمٍ متعدد الأقطاب، ورفضها لهيمنة الرواية الغربية على المشهد الدولي.
منذ اندلاع الحرب، تبنّت بكين خطاباً ثابتاً يدعو إلى وقفٍ فوريٍ وشاملٍ للقتال، ورفع الحصار المفروض على القطاع، وضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون قيود. كما شددت على أن غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية، وأنه لا يجوز تحويلها إلى “ورقة تفاوضية” أو “هدف لمشاريع الاحتلال”.
وفي أكثر من مناسبة، عبّر وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن موقف بلاده الرافض لـ”التهجير القسري” و”العقاب الجماعي” الذي يتعرض له المدنيون في غزة، مؤكداً أن ما يجري يمثل انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني، وأن الحلّ الوحيد يكمن في تجسيد مبدأ الدولتين، بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
ورغم وضوح التعاطف الصيني مع المأساة الفلسطينية، تتحاشى الصين استخدام توصيف “الإبادة الجماعية” في تصريحاتها الرسمية. فهي تُدين المجازر والانتهاكات، لكنها تفضّل لغة دبلوماسية أقل حدة، تتحدث عن “انتهاكات” و”مآسٍ إنسانية”، دون تحميل إسرائيل مسؤولية قانونية مباشرة. ويبدو أن هذا الموقف نابع من حسابات براغماتية دقيقة، تسعى بكين من خلالها للحفاظ على توازن علاقاتها الإقليمية، وعدم قطع خطوط التواصل مع القوى الغربية، خصوصاً في ظل تصاعد التنافس الجيوسياسي مع الولايات المتحدة.
على الصعيد العملي، قدّمت الصين مساعدات إنسانية إضافية للفلسطينيين، وشاركت في المحافل الدولية الداعية إلى حماية المدنيين ووقف إطلاق النار. كما دعا الرئيس شي جين بينغ إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، مؤكداً أن تحقيق العدالة للفلسطينيين ضرورة لاستقرار المنطقة.
ومع أن الصين لم تُعلن انحيازها الصريح كما تفعل بعض العواصم العربية أو الإسلامية، إلا أن لغة مواقفها، ومضامين بياناتها، تكشف عن تعاطف استراتيجي مع القضية الفلسطينية، وعن رغبة في أن تكون طرفاً مؤثراً في صياغة مستقبل المنطقة بعيداً عن الهيمنة الأميركية.
إن قراءة متأنية للمشهد الصيني تُظهر أن بكين تراهن على الزمن والدبلوماسية الهادئة أكثر من التصعيد الإعلامي أو الخطاب الثوري. فهي تفضّل أن تبني نفوذها الدولي عبر المبادرات السياسية والتجارية والإنسانية، لا عبر المواجهة المباشرة. ومع ذلك، فإن خطابها الداعم لحقوق الفلسطينيين ورفضها لمحاولات “تصفية غزة” يمنح الفلسطينيين سنداً أخلاقياً وسياسياً مهماً في الساحة الدولية.
قد لا ترفع الصين صوتها بالحدة التي نرجوها، لكنها تقول الكثير بصمتها المنضبط، وبسياساتها التي تضع العدالة والسلام على جدول أولوياتها العالمية، وإن بلغة الدبلوماسية الهادئة.
									 
					