لم تنجح الهدنة الأخيرة في قطاع غزّة في فتح الطريق أمام مرحلة سياسية جديدة، بل كشفت هشاشة الوضع الداخلي الفلسطيني، وأعادت إلى السطح ممارسات قديمة تؤكّد أن الانقسام ما زال هو الحاكم الفعلي على الساحة الفلسطينية.
فمنذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في العاشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، بدا واضحاً أن حركة “حماس” استغلّت الهدوء النسبي لإعادة ترتيب مؤسّساتها الأمنية والإدارية، وتعزيز قبضتها على القطاع، في ظلّ غياب أيّ قوى محلّية قادرة على منافستها أو الحدّ من هيمنتها.
أثار مقطع الفيديو الذي أظهر قيام عناصر أمنية تابعة لـ”حماس” بإعدام مجموعة من الشبّان من عائلة دغمش في حيّ الصبرة، بحجّة تعاونهم مع الاحتلال الإسرائيلي وارتكاب جرائم، جدلاً واسعاً في الشارع الفلسطيني. ولم تكن تلك الحادثة هي الأولى، فقبلها بأسابيع هاجمت مجموعات أمنية تابعة للحركة عائلة المجايدة في مواصي خان يونس، وقتلت عدداً من أفرادها بالتهمة ذاتها، وتدخّل الطيران الإسرائيلي وقتل عدداً من أفراد القوّة.
هذه الممارسات أعادت إلى الأذهان سجلّ “حماس” في القتل خارج إطار القضاء، وتنفيذ أحكام إعدام علنية خلال سنوات حكمها الماضية، ما يشكّل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان وللمعايير القانونية التي تجرّم أيّ عقوبة دون محاكمة عادلة.
اللافت أن الجدل الشعبي حول هذه الحوادث لم ينطلق من موقف مبدئي ضدّ القتل خارج القانون، بل من الانقسام السياسي ذاته: فالبعض دافع عن هذه الإعدامات باعتبارها “ردعاً للفوضى والعمالة”، فيما دانها آخرون انطلاقاً من خصومتهم السياسية مع “حماس”، لا من منطلق الدفاع عن سيادة القانون وحقّ الحياة، وهذا بحدّ ذاته مؤشّر خطير على تآكل المفاهيم القانونية والحقوقية في الوعي الجمعي الفلسطيني، تحت ضغط الانقسام والاصطفاف السياسي.
الهدنة التي رُوّج لها كفرصة لإعادة بناء الوحدة الوطنية، تحوّلت عملياً إلى مرحلة جديدة من تعزيز حكم الأمر الواقع في غزّة. فبينما انشغلت السلطة الفلسطينية في رام الله بملفّاتها الداخلية، واتّهمت بأنها تخلّت عن غزّة منذ أكثر من عقد ونصف من الزمن، كانت “حماس” تُعيد هيكلة مؤسّساتها الحكومية وتعيين مسؤوليها الجدد، وتفرض على الأرض نظاماً أمنياً صارماً تحت عنوان “إعادة الاستقرار”.
بذلك، استثمرت الحركة في الفراغ السياسي لتُعيد إنتاج سلطتها، لا لتسهم في بناء مشروع وطني مشترك. غياب أيّ مسار جادّ لإنهاء الانقسام جعل المجتمع الفلسطيني يعيش في حالة من التيه السياسي: فلا مصالحة حقيقية، ولا إدارة وطنية موحّدة، ولا حتى مشروع إعادة إعمار واضح المعالم. والأخطر أن هذا الواقع يمنح “حماس” مبرّراً دائماً للاستمرار في سياسة القبضة الأمنية بدعوى “الحفاظ على الأمن الداخلي” في ظلّ غياب البدائل.
الاعتداءات على الحقوق الأساسية، من حرّية التعبير إلى الحقّ في المحاكمة العادلة، تتواصل في غزّة تحت مبرّر الحرب والفوضى، وهو نمط يعبّر عن تحوّل فكرة الأمن إلى غاية بحدّ ذاتها، بينما يُهمَّش القانون وتُسكت الأصوات المعارضة.
حتى الحركات الشبابية والمبادرات الشعبية التي حاولت في السابق انتقاد الأوضاع المعيشية أو الفساد الإداري، وُوجهت بالقمع والملاحقة.
ورغم الانتقادات الدولية التي طالبت “حماس” بوقف الإعدامات الميدانية وأعمال الانتقام، فإن الحركة ما زالت تمارس الحكم كسلطة أمر واقع، تلاحق من تصفهم بـ”الخارجين عن القانون”، وتفرض الضرائب والرسوم الجمركية على التجّار، وتدير مؤسّساتها الأمنية والمدنية كأن الحرب لم تُحدث تحوّلاً جوهرياً في طبيعة الحكم، وهذا يعني أن التوقّف المعلن عن الإعدامات لم يكن سوى تكتيك سياسي لتخفيف الضغط الدولي، وليس تحولاً حقيقياً في النهج.
في ظلّ تدمير واسع لمرافق القضاء والعدالة، وغياب البنية المؤسّسية لأيّ نظام مدني مستقلّ، لا تبدو هناك إمكانية قريبة لإصلاح أو مساءلة حقيقية. فـ”حماس” تحكم اليوم بوسائل الأمر الواقع، وتستفيد من غياب البديل ومن ضعف السلطة الفلسطينية في الضفّة الغربية.
لكنّ السؤال المركزي الذي يفرض نفسه: هل ستبقى “حماس” في الحكم؟
الشروط الإسرائيلية والدولية، بخاصّة تلك التي أعادت الظهور في الخطط السياسية المستندة إلى “خطّة ترامب”، تهدف إلى إزاحة “حماس” تماماً من إدارة غزّة، واستبدالها بإدارة مدنية أو دولية جديدة تشرف على إعادة الإعمار وتضمن الأمن لإسرائيل.
غير أن الواقع الميداني يشير إلى أن “حماس” ما زالت القوّة المنظّمة الوحيدة القادرة على إدارة شؤون الناس، ولو بالحدّ الأدنى، وأن أيّ محاولة لتهميشها دون بديل وطني فعلي، قد تعني عودة الفوضى والانفجار الداخلي.
وهنا تتّضح معضلة المرحلة:
إذا كانت “حماس” باقية بفعل القوّة والتنظيم، فإن استمرارها في الحكم دون إصلاح أو مساءلة يعني استمرار غياب العدالة وتآكل الثقة الشعبية.
أما إذا جاءت إدارة بديلة وفق الشروط الإسرائيلية، فإن احترام حقوق الإنسان وتطبيق القانون سيكونان في خطر أكبر، لأن تلك الإدارة ستعمل في ظلّ وصاية أمنية خارجية، لا تعترف بالسيادة الفلسطينية أصلاً.
في النهاية، لا يمكن قراءة واقع غزّة اليوم بمعزل عن معادلة “القوّة مقابل الشرعية”. “حماس” تُمسك بزمام الحكم لكنّها تفقد ثقة الناس، والمجتمع الدولي ينتقد ممارساتها، لكنّه في الوقت ذاته يعترف ضمنياً بأنها الجهة الوحيدة القادرة على إدارة القطاع في غياب الدولة.
وبين هذا وذاك، يظلّ سكّان غزّة الضحيّة الدائمة لسياسات الأمر الواقع، والانقسام، وغياب العدالة، في انتظار مرحلة لم تتّضح ملامحها بعد، مرحلة قد تحدّد ما إذا كانت “حماس” باقية في الحكم، أم أن غزّة تتّجه نحو إدارة جديدة لا تختلف في جوهرها إلا بالاسم.
