في خضمّ الأزمات المتشابكة التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من أزمات مناخية واقتصادية إلى سياسية واجتماعية، وبعد الإبادة الجماعية في غزّة التي استمرت لمدة عامين، لم يعد الانتقال إلى نموذج طاقي أكثر عدلاً واستدامة ترفًا يمكن تأجيله، بل بات ضرورة ملحّة لحماية شعوب المنطقة وضمان أمن واستقرار دولنا؛ فالانتقال العادل للطاقة مشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي يعزّز السيادة، ويضع صحة الإنسان وكرامته في صلب الأولويات.
نقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، فمعدّل الاحترار في منطقتنا يبلغ ضعف المتوسط العالمي، ما يعني موجات حرّ قاتلة، وجفافًا حادًا يهدد أمننا الغذائي والمائي، وفيضانات وحرائق مدمّرة تحصد الأرواح وتكبّد اقتصاداتنا خسائر جسيمة.
ورغم هذه الكلفة الباهظة تبقى اقتصاداتنا رهينة للوقود الأحفوري، الذي يوفّر أكثر من 95% من استهلاك الطاقة، ما يفاقم الأزمة بدل حلّها.
ورغم تنوّع المشهد الطاقي بين دول المنطقة إلا أنّ أزماته متقاطعة؛ فالدول المصدّرة للنفط تواجه مستقبلًا غامضًا مع توقعات تراجع الطلب العالمي على الوقود الأحفوري وفق “الوكالة الدولية للطاقة”، بينما تعاني الدول المستوردة صعوبات في تمويل التحول إلى الطاقة المتجدّدة وسط أعباء ديون خانقة. أما في البلدان التي مازالت تتأثّر بتداعيات النزاعات والحروب فيشكّل غياب الاستقرار عائقًا أمام بناء مسارات طاقوية مستدامة. ومع ذلك تمثل هذه التحديات فرصة لإعادة تصوّر أنظمتنا الطاقية، إلى جانب المطالبة بأهداف أكثر طموحًا لتمويل المناخ، والدعوة إلى تعزيز نقل التكنولوجيا، بما يمكّن المنطقة من التقدم نحو انتقال عادل ومستدام.
خريطة الانتقال العادل في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. من بديل إلى ضرورة
الانتقال العادل للطاقة ليس ترفاً بيئياً، بل ضرورة وجودية واقتصادية وسيادية، فهو الطريق نحو الاستقرار الداخلي والسيادة الطاقية. هذا التحوّل يعني أن تنتج دولنا طاقتها من مواردها المتجدّدة تحت سيطرة مجتمعاتها، لا أن تبقى رهينة واردات مكلفة وديون مرهقة، كما أنه يخلق فرص عمل محلية، ويقلّص الفجوة بين المدن والمناطق المهمّشة، ويمنح الشباب والنساء دوراً فاعلاً في بناء اقتصاد أكثر عدلاً واستدامة؛ وبقدر ما يُسهم في خفض الانبعاثات فإنه يعيد توزيع الفرص والثروة، ويمنح شعوبنا القدرة على الصمود أمام أزمات المناخ والاقتصاد معًا.
ورغم الارتباط العميق للمنطقة بالوقود الأحفوري تملك إمكانات هائلة للطاقة النظيفة؛ فهي تتميّز بنسبة تتراوح بين 22 و26% من جملة الإشعاع الشمسي العالمي وفقا للبنك الدولي. وتشير تحليلات فنية إلى أنّ كل كيلومتر مربع يمكن أن ينتج طاقة شمسية تعادل ما يقارب 12 مليون برميل نفط سنويًا في الظروف المثالية، وهو ما قد يلبّي نصف احتياجات العالم من الكهرباء. إضافة إلى ذلك تمتلك المنطقة موارد رياح ضخمة وجيلًا شابًا متعطشًا للعمل والإبداع. وقد بدأت بعض الدول خطوات أولية لتنويع مصادر الطاقة، لكنها تظل محدودة ما لم تندرج ضمن رؤية إقليمية شاملة للانتقال العادل، تقوم على أربعة أعمدة: وقف التوسع في المشاريع الأحفورية، توسيع الطاقة المتجددة الموزعة مع إعطاء الأولوية للمجتمعات المحلية، حماية العمال من خلال خطط لإعادة التدريب والتنويع الاقتصادي، وتبنّي الحوكمة الشفافة.
انطلاقاً من هنا يبدأ جوهر خريطة الانتقال العادل بوقف التوسع في استخراج الوقود الأحفوري، انسجامًا مع هدف حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية. لكن هذا الانتقال العادل يتطلّب أن تتحمّل الدول الغنية، الملوِّثة تاريخيًا مسؤولياتها وفق مبدأ “المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة” ومبدأ “الحصة العادلة” المنصوص عليهما في اتفاق باريس.
ويعني ذلك تسديد الدين المناخي للمجتمعات الأكثر تضررًا، من خلال الدعم التقني، وتوفير التمويل للانتقال العادل على شكل منح لا قروض، إلى جانب فرض التزامات واضحة على الملوِّثين لتحمّل كلفة الأضرار. كما يعني ذلك التحرّك أولًا وبأسرع وتيرة ممكنة عندما يتعلّق الأمر بخفض الانبعاثات.
ويفتح هذا الانتقال بابًا واسعًا لخلق فرص عمل وتنمية شاملة، إذ تشير التقديرات إلى إمكانية إضافة نحو 18 مليون وظيفة جديدة في قطاع الطاقة المتجددة عالميًا بحلول 2050 إذا ما اقترن بسياسات تُشرك العمال والمجتمعات. ويتطلّب ذلك خططًا استثمارية لخلق وظائف لائقة، وبرامج إعادة التدريب، وضمانات للدخل خلال مراحل الانتقال، إلى جانب تنويع اقتصادي وإصلاح بيئي يحمي سبل العيش في المناطق المعتمدة تاريخيًا على الوقود الأحفوري.
ويظل اعتماد الحوكمة الشفافة الركيزة الأساسية لضمان أن يكون الانتقال العادل مسارًا فعليًا لا شعارًا، إذ تقتضي العدالة إدارة عائدات الطاقة بطريقة تضمن الرقابة والمشاركة العامة، ونشر العقود الطاقية والإفصاح عن مصادر التمويل، لبناء الثقة بين المواطنين وتحويل التحول الطاقي إلى مشروع عدالة حقيقي.
فرصة تاريخية للمنطقة
إن الانتقال العادل للطاقة ليس مشروعًا بيئيًا فحسب، بل مشروع يعيد رسم ملامح منطقتنا. آن الأوان لحوار صريح بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص والمجتمعات المحلية لمواجهة التحديات وصياغة حلول مشتركة. صحيح أن الطريق مليء بالعقبات بسبب إرث الاعتماد على النفط وهشاشة بعض الدول، لكن هذه الرحلة تستحق العناء، فهي تَعِد بمستقبل أكثر استدامة، وتؤسّس لاقتصادات أكثر سيادة، عدلًا واستقرارًا.
وإيمانًا بالدور الريادي الذي يمكن أن تلعبه منطقتنا في معادلات الطاقة العالمية، وفي خطوة بارزة ضمن سلسلة مبادرات لتحقيق العدالة المناخية وعدالة الطاقة، أطلقت غرينبيس الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالتعاون مع شبكة العدالة في إدارة الموارد والمركز الإقليمي لعدالة الطاقة والمناخ التابع لمؤسسة فريدريش إيبرت، لقاءً من عمّان بعنوان “نحو مستقبل عادل للطاقة” لترجمة هذه الرؤية إلى خطوات عملية. وأسفر اللقاء عن خريطة طريق إقليمية للانتقال العادل للطاقة، وإطلاق ميثاق “الملوِّث يدفع”، الذي يدعو الجهات الملوّثة لتحمّل مسؤولياتها عن الأضرار المناخية.
اليوم نفتح صفحة جديدة لقيادة تحوّلٍ حقيقي نحو مستقبلٍ نظيفٍ وعادلٍ، تُوضع فيه العدالة والإنسان في صميم معادلة الطاقة والازدهار والتغيير.
*المديرة التنفيذية في غرينبيس الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
المصدر: هسبريس
