بعد عامين من الحرب المدمّرة، توصلت غزة وإسرائيل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، جاء ثمرة لضغوط دولية مكثفة، خصوصاً من الجانب الأمريكي، في ظل عزلة إسرائيل المتزايدة على الساحة العالمية. لكن الهدوء لم يدم طويلاً؛ إذ سرعان ما عادت أصوات الانفجارات لتدوّي في سماء القطاع، مطروحةً سؤالاً ملحاً: هل نحن أمام خروقات للاتفاق أم بداية لمرحلة جديدة من الصراع؟

لم يكن قرار وقف إطلاق النار والذهاب إلى خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذات النقاط العشرين خياراً إسرائيلياً خالصاً، بل جاء نتيجة ضغوط خارجية أجبرت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على القبول به، ما أثار حفيظة قاعدته اليمينية المتطرفة.
فالرؤية السائدة داخل الحكومة الإسرائيلية كانت تدعو إلى استمرار الحرب واحتلال غزة وتنفيذ مخطط تهجير سكانها. لذلك، يُنظر إلى الاتفاق الحالي على أنه لا يلبي طموحات اليمين الإسرائيلي الذي كان يسعى لتحقيق “انتصار ساحق”، وهو ما تعكسه استطلاعات الرأي التي أظهرت أن ٣٧٪ فقط من الإسرائيليين يرون أن بلادهم انتصرت في الحرب، مقابل ٣٤٪ يعتبرونها قد هُزمت.

من هنا، يمكن فهم دوافع استئناف القصف الإسرائيلي من خلال بُعدين رئيسيين:

1. تعديل شروط الاتفاق:
تسعى إسرائيل من خلال القصف المحدود إلى فرض واقع جديد على الأرض، يتيح لها تعديل بنود الاتفاق بشكل غير مباشر لصالحها، عبر ترسيخ ما يُعرف في الإعلام الإسرائيلي بـ”النموذج اللبناني”، أي الاحتفاظ بـ”حرية العمل العسكري” داخل غزة دون الانزلاق إلى حرب شاملة.

2. رسائل للداخل الإسرائيلي:
يواجه نتنياهو ضغوطاً داخلية من اتجاهين متناقضين:

من جهة، القاعدة الانتخابية اليمينية المتشددة التي تعتبر الاتفاق علامة ضعف وخضوع للوصاية الأمريكية، ما يهدد صورة نتنياهو “القوي” التي بناها لسنوات.

ومن جهة أخرى، عائلات الأسرى الإسرائيليين الذين يشكّلون تياراً شعبياً ضاغطاً لاستعادة جثامين أبنائهم.
في هذا السياق، يخدم القصف المحدود نتنياهو سياسياً، إذ يوجّه رسائل طمأنة لليمين بأنه ما زال يمسك بزمام المبادرة، وفي الوقت نفسه يمنح شرعية شعبية للهجمات عبر ربطها بملف الأسرى، ما يخفف من حدة المعارضة الداخلية، التي تشير الاستطلاعات إلى أن ٦٧٪ منها تطالب بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في إدارة الحرب.

في المقابل، تدرك المقاومة الفلسطينية أن وقف الحرب الشاملة يمثل إنجازاً استراتيجياً بحد ذاته، لأنه حافظ على الدم الفلسطيني وقطع الطريق أمام مخطط التهجير. لذا، تتعامل المقاومة مع القصف الحالي بوصفه “خروقات إسرائيلية” للاتفاق، وتتبع استراتيجية مزدوجة:

على الصعيد الدبلوماسي:
تعمل على فضح هذه الخروقات أمام الوسطاء والمجتمع الدولي، لوضعهم أمام مسؤولياتهم كضامنين للاتفاق، وسحب الذرائع من إسرائيل، في مسعى لتعزيز عزلتها كدولة مارقة لا تحترم التزاماتها الدولية.

على الصعيد العسكري:
تتحلّى المقاومة بصبر استراتيجي وتتجنب الانجرار إلى مواجهة شاملة قد تخدم الأهداف الإسرائيلية، بينما تسعى في المقابل إلى خلق معادلات ردع جديدة قد لا تكون بالضرورة من داخل غزة، لمنع إسرائيل من التمادي في استهداف الفلسطينيين.

يبدو أن إسرائيل تسعى إلى استمرار الصراع ولكن بصيغة مختلفة. فبعد إطلاق سراح الأسرى الأحياء، تحاول تحويل الحرب الشاملة إلى حرب “نقطية” ومحدودة، لكن هذه المرة بغطاء أمريكي وصمت دولي، ما يتيح لها تحقيق مكاسب ميدانية دون دفع كلفة الحرب الواسعة.

ومع ذلك، فإن خيار العودة إلى حرب شاملة يبدو مستبعداً، في ظل وجود إرادة دولية وأمريكية واضحة ترفض هذا السيناريو. فالولايات المتحدة، رغم كونها الشريك التاريخي لإسرائيل، باتت ترى أن مصالحها الكبرى في المنطقة تقتضي إنهاء الصراع للحفاظ على استقرار الشرق الأوسط وحماية إسرائيل من نفسها.
غير أنها، في الوقت ذاته، لن تعترض على استمرار “الحرية العسكرية الإسرائيلية” طالما لم تمسّ جوهر اتفاق وقف إطلاق النار.

في المحصلة، تقف غزة اليوم على أعتاب مرحلة جديدة: انتهت الحرب الشاملة لتبدأ حرب استنزاف محدودة.
مستقبل القطاع سيتوقف على قدرة الوسطاء على لجم الخروقات الإسرائيلية، وعلى حكمة المقاومة في إدارة ردودها، وعلى موازين القوى الدولية التي باتت تجبر جميع الأطراف على إعادة حساباتها.

شاركها.