أمد/ منذ ثلاثة عقودٍ على اتفاق أوسلو، ما زالت فلسطين تعيش بين خيارين متوازيين لا يلتقيان: تسويةٌ بلا سلام، ومقاومةٌ بلا تحرير.

تتوالى الحروب وتتكرر الهدن، لكنّ الخسارة الكبرى تبقى واحدة، شعبٌ ينزف تحت الاحتلال، واحتلالٌ يتقوّى تحت غطاء الصراع المستمر.

فهل تحرّرت الأرض أم تحررت إسرائيل من التزاماتها؟ وهل كانت المقاومة طريقاً للتحرير أم وسيلة لتكريس واقع الاحتلال؟

منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وما تلاه من انقسامٍ في الرؤية الفلسطينية بين نهج التسوية ونهج المقاومة المسلحة، تعاقبت جولات الحروب بين إسرائيل وفصائل المقاومة، من انتفاضة الأقصى إلى “طوفان الأقصى”، دون أن تقترب فلسطين خطوة واحدة من التحرير أو من قيام الدولة المستقلة. والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل كانت تلك الحروب وسيلةً للتحرير فعلاً، أم أداةً غير مباشرة خدمت إسرائيل في التهرب من استحقاقات السلام وإنهاء الاحتلال؟

لقد جاءت معظم هذه الحروب تحت شعارات “الردع” و”الثأر للدم الفلسطيني”، لكنها سرعان ما انزلقت إلى دوراتٍ متكررة من العنف أنهكت المجتمع الفلسطيني، وكرّست واقع الحصار والانقسام.

فكل حربٍ تنتهي بوقفٍ لإطلاق النار، وكل هدنةٍ تُبقي الاحتلال في مكانه، فيما تُدفن آمال الشعب الفلسطيني تحت الركام، وتُفتح بوابات التمويل والتدخل الإقليمي على حساب وحدة القرار الوطني واستقلاله.

من زاويةٍ أخرى، فإن إسرائيل كانت وما تزال المستفيد الأكبر من هذه المعادلة المأساوية، إذ استغلت وجود المقاومة في غزة لتبرير عدوانها المستمر، ولتظهر أمام العالم كدولةٍ “تدافع عن نفسها” ضد “تهديداتٍ إرهابية”، متخلصة بذلك من أي التزاماتٍ تجاه العملية السياسية أو قرارات الشرعية الدولية.

لقد استخدمت الحروب المتكررة ذريعةً مثالية للتهرب من التسوية، وتوسيع الاستيطان، وتهويد القدس، وتدمير فكرة الدولة الفلسطينية من أساسها.

أما قوى المقاومة، فعلى الرغم من تضحياتها وصمودها الأسطوري، فإنها وُضعت بحكم الجغرافيا والسياسة والظروف الإقليمية في إطارٍ ضيق، لا يسمح بتحقيق التحرير، بل يُبقيها جزءاً من معادلة “إدارة الصراع” التي أتقنتها إسرائيل. فكل جولة قتال تُنهيها إسرائيل بتفاهماتٍ مؤقتة أو تسهيلاتٍ إنسانية محدودة، تُبقي المشهد كما هو، وتُعيد إنتاج الأزمات نفسها: حصار، دمار، ثم إعادة إعمار.

بذلك، لم تتضرر إسرائيل استراتيجياً من وجود المقاومة، بل استفادت من استمرارها في هذا الشكل المجتزأ والمحدود، الذي يحصر الصراع داخل القطاع، ويمنع تشكّل جبهةٍ وطنيةٍ موحدة تفرض حلاً عادلاً وشاملاً.

لقد أدركت تل أبيب مبكراً أن استمرار المقاومة في ظل الانقسام الفلسطيني هو أفضل ضامنٍ لبقاء الاحتلال وإدامة حالة “اللاحسم” التي تُريحها سياسياً وأمنياً في آنٍ واحد.

إن المأساة الكبرى ليست في فشل الحروب بتحقيق التحرير فحسب، بل في ضياع البوصلة الوطنية، حيث تحوّل النضال من مشروعٍ وطنيٍ جامع إلى مشاريع متنافسة، كلٌ منها يدّعي الشرعية والتمثيل. وبين هذا وذاك، بقي الشعب الفلسطيني وحده يواجه الموت والدمار والتهجير، فيما تُقطف نتائج الصراع من خارج الحدود.

اليوم، بات واضحاً أن لا التحرير تحقق بالمقاومة كما مورست، ولا السلام تحقق بالمفاوضات كما وُعد، وما لم يُعد الفلسطينيون صياغة مشروعهم الوطني على قاعدة وحدة الهدف والقرار، فإن إسرائيل ستظل المستفيد الأكبر من هذا الانقسام، تتهرب من التسوية، وتُعمّق الاحتلال تحت غطاء “مواجهة الإرهاب”.

إن القضية الفلسطينية بحاجةٍ إلى مقاومةٍ جديدة في مفهومها ووسائلها، مقاومةٍ تجمع بين الوعي والقدرة، بين الفعل السياسي والميداني، وتعيد الاعتبار للبوصلة الوطنية نحو الهدف الذي لا بديل عنه: التحرر الكامل وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

شاركها.