أمد/ ماذا يدور في الكواليس بين واشنطن وطهران؟ وما مغزى قول ترامب إنهم ضعفاء ولا يسعون إلى امتلاك السلاح النووي؟
منذ أربعة عقود والعلاقات بين واشنطن وطهران تدور في مدارٍ غامض تتداخل فيه الخصومة بالصفقة، والتهديد بالتفاهم، والعداء بالحرص الخفي على بقاء النظام القائم في إيران، وعلى الرغم من الخطابات النارية التي يتبادلها الطرفان فإنّ ما يُدار في الكواليس يكشف عن سياسةٍ غربية مزدوجة الملامح تُبقي النظام الإيراني على قيد الحياة لا حبًّا به بل خشيةً من سقوطه وما قد يعقبه من تغيّرات لا يمكن التنبؤ بها في قلب إيران والشرق الأوسط.
الغرب بين الشجب والاحتواء: معادلة الخوف من التغيير
منذ قيام نظام الملالي عام 1979 لم يكن الغرب وفي مقدمته الولايات المتحدة غافلًا عن طبيعته القمعية والتوسعية ولا عن سجله الأسود في دعم الإرهاب وزعزعة استقرار المنطقة؛ غير أنّ الغرب لم يتعامل معه كخصمٍ يجب إسقاطه بل ككيانٍ يجب احتواؤه وإدارته على نحوٍ يضمن استمرار مصالحه الاستراتيجية في المنطقة دون أن تنفلت الأمور نحو فوضى لا يمكن السيطرة عليها.. فالعقوبات تُفرض بيد وتُرفع باليد الأخرى، والمفاوضات تتوقف وتُستأنف، واللغة السياسية تتأرجح بين التهديد والابتسامة الدبلوماسية.. وهكذا، استقرّ الموقف الغربي على معادلة دقيقة “الضغط دون الانهيار، والإدانة دون التغيير.”
هذه السياسة التي يسميها بعض المراقبين “سياسة المهادنة الذكية” هي في حقيقتها شكلٌ من الاسترضاء المقنّع يُبقي نظام الملالي جزءًا من منظومة التوازن الإقليمي؛ لكنه محروم من القدرة على الخروج من تحت المراقبة الدولية.
الإدارة الأمريكية.. ازدواجية الخطاب ومصالح ما وراء الشعارات
لم تختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة في جوهر تعاملها مع طهران، وإن اختلفت في النبرة والأسلوب.. فالديمقراطيون غالبًا ما يختارون طريق الدبلوماسية المرنة التي تمنح النظام الإيراني متنفسًا سياسيًا واقتصاديًا بحجة فتح نوافذ الحوار كما حدث في الاتفاق النووي لعام 2015.. أما الجمهوريون وعلى رأسهم دونالد ترامب فقد اتخذوا أسلوبًا أكثر صدامية ظاهريًا لكن نتائجه لم تخرج عن دائرة إدارة الأزمة لا حلّها، ولئن انسحب ترامب من الاتفاق النووي وشدد العقوبات على طهران فإنّ تصريحه الشهير الذي قال فيه إن الإيرانيين “ضعفاء ولا يسعون إلى امتلاك سلاح نووي” كان يحمل في طيّاته دلالاتٍ مزدوجة.. فهو من جهةٍ استخفّ بقدرة النظام ليُبرر عدم الانزلاق إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ومن جهة أخرى ترك الباب مفتوحًا أمام احتمال صفقةٍ جديدة بشروطٍ أمريكية أكثر تشددًا.. إنّ مثل هذا الخطاب لا يُراد به نفي خطر النظام، بل استخدامه كورقةٍ تفاوضية في لعبة المصالح الكبرى.
ما الذي يدور خلف الستار؟
ما يبدو على السطح من عداءٍ لفظي وتصعيدٍ إعلامي يخفي تحت الماء شبكةً معقدة من التفاهمات الضمنية والمصالح المتبادلة..
فالإدارة الأمريكية تدرك أن سقوط النظام الإيراني المفاجئ سيخلق فراغًا سياسيًا وأمنيًا هائلًا في المنطقة؛ فراغاً قد تملؤه قوى وطنية لا يمكن ضبطها وفق مصالحها.. كما أنّ استمرار النظام في حالة ضعفٍ مزمن يضمن لواشنطن بقاء “عدوٍّ يمكن التحكم به”؛ عدوّ يبرّر وجودها العسكري في المنطقة، ويبرّر تحالفاتها وتسليحها لحلفائها الخليجيين، وفي الوقت ذاته لا يمتلك القدرة الحقيقية على تهديد المصالح الأمريكية مباشرة.. وهكذا تصبح سياسة المهادنة والاسترضاء جزءًا من إستراتيجية أوسع لإدارة الشرق الأوسط لا لإنقاذ النظام الإيراني فحسب بل لاستخدامه كـ”ورقة ضغط متحركة” ضد خصوم آخرين كروسيا والصين، وحتى داخل المعادلة النفطية العالمية.
إيران من الداخل.. نظام مترنّح يعيش على أنفاس الخارج
هذه السياسة الغربية التي تراهن على بقاء الملالي كأداةٍ لضبط الإقليم، تتجاهل حقيقة أساسية مفادها: أن هذا النظام ينهار من الداخل.. فالأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والانتفاضات المتتالية التي تهز المدن الإيرانية كشفت هشاشة البنية السياسية والاقتصادية للنظام وأظهرت أن القمع لم يعد قادرًا على احتواء الغضب الشعبي، ورغم أن الدعم الغربي غير المعلن عبر تخفيف العقوبات أو تأجيلها قد أمدّ النظام ببعض الأوكسجين فإنّ النزيف الداخلي مستمرّ، والمجتمع الإيراني يتجه بخطى ثابتة نحو نقطة اللاعودة.
المفارقة: الغرب يخشى ما يتمناه
إنّ المفارقة الكبرى في السياسة الغربية تجاه طهران هي أنّ الغرب يطالب بتغيير سلوك النظام لكنه يرتعب من فكرة تغيّر النظام نفسه؛ ذلك أن وجود سلطة استبدادية ضعيفة في طهران يخدم مصالحه أكثر من قيام نظام ديمقراطي حرّ يعيد رسم توازنات المنطقة على نحوٍ جديد، ويجعل من إيران قوة وطنية مستقلة الإرادة، ومن هنا يأتي حرص الإدارة الأمريكية وإن اختلفت الأسماء بين بايدن وترامب على إبقاء النظام حيًّا ولكن عاجزًا، قائمًا ولكن محاصرًا، فاعلًا في الإقليم ولكن محدود التأثير.
ما بين ضعف النظام وازدواجية الغرب
حين قال ترامب إن الإيرانيين “ضعفاء ولا يسعون إلى امتلاك سلاح نووي” كان يُعلن بوضوحٍ أن المواجهة مع النظام ليست ضرورةً ملحّة وأنّ الهدف هو التحكم لا التدمير.. لكنّ التاريخ يعلمنا أن الأنظمة التي تُدار بالوصاية الخارجية وتُبقيها الموازنات الدولية مصطنعة الحياة سرعان ما تسقط بفعلٍ داخلي لا يرحم، واليوم ومع تزايد الانتفاضات وتفاقم الأزمات يبدو أن ساعة الحساب تقترب، وأنّ كل سياسات المهادنة لن تمنح الملالي طوق نجاة دائمًا.
الضعف الذي وصفه ترامب قد يكون حقًا توصيفًا دقيقًا، وقد يكون مناورة وفق السيناريوهات المعتاد تداولها بين الطرفين؛ لكنه في الحقيقة الضعف الذي يسبق السقوط لا الإستقرار.. أما إيران كما يبدو تتهيأ لكتابة فصلٍ جديد من تاريخها؛ فصل لا مكان فيه للمهادنة بل للحرية والسيادة التي طال انتظارها.
