قلنا، إن نتنياهو صعد في حقل السياسة الإسرائيلية في الثمانينيات، وإن مؤهلاته كانت وثيقة الصلة بميراثه العائلي، وشبكة علاقات اجتماعية وسياسية جلبت أمراء الليكود إلى الواجهة. وما يستحق الذكر أن هذا الأمر تحقق خارج إسرائيل من خلال عمله نائباً للرئيس، ورئيساً، للبعثة الإسرائيلية في الأمم المتحدة. وهي وظائف ومهام تستدعي الظهور على شاشة التلفزيون بصفة دائمة، وتجعل من أصحابها وجوهاً مألوفة لدى أوساط اجتماعية مختلفة في بلدانهم.
وبهذا المعنى، كان نتنياهو وجهاً مألوفاً في عقد التسعينيات، الذي شهد عودته إلى إسرائيل، والتحاقه بالماكينة الحزبية لليكود، وانخراطه في لعبة وتوازنات الحقل السياسي، ونجاحه في الوصول إلى رئاسة الحكومة في العام 1996. ولهذا الأمر أكثر من دلالة على مستويات مختلفة، أبرزها وصوله إلى هرم السلطة بوصفه أصغر رؤساء الحكومات سنّاً في تاريخ الدولة من ناحية، وصاحب مؤهلات وخبرات تنظيمية وانتخابية غير مسبوقة في الحقل السياسي، من ناحية ثانية.
ذكرنا في معالجات سبقت أن سياسات الليكود الاقتصادية والاجتماعية، بعد وصوله إلى سدة الحكم، زعزعت أركان الدولة العمالية، وقوّضت روافعها الاجتماعية والسياسية، وقاعدتها الاقتصادية. ولكن السياسات المعنية لم تكن قد ترّسخت في أوائل التسعينيات. والمفارقة أن ما سيعتبر في وقت لاحق بداية للازدهار الاقتصادي الذي صنعته سياسات اليمين، مدين للعماليين، وشمعون بيريس، على نحو خاص، الذي نجح في الخروج بالاقتصاد من أزمته الخانقة في أواسط الثمانينيات، ووضع الروافع الأساسية للازدهار الاقتصادي في النصف الثاني من العقد نفسه.
على أي حال، ما يعنينا من أمر كهذا أن عودة نتنياهو إلى مركز الحقل السياسي ترافقت مع الازدهار الاقتصادي، وانحسار الهيمنة العمالية، وتزايد إحساس الليكود، وحلفائه، وقواعدهم الاجتماعية، بأنهم موجة المستقبل. مكّنت هجرة اليهود من جمهوريات الاتحاد السوفياتي، بعد انهياره، من تحويل موجة المستقبل إلى أمر واقع. أحدثت تغيّرات ديموغرافية هائلة، وزادت من حجم القاعدة الانتخابية لليمين، ناهيك عن الخبرات والمؤهلات التي جلبها المهاجرون بداية من أواخر الثمانينيات.
ومع هؤلاء، شهد عقد التسعينيات التحاق جيلين من أبناء المهاجرين اليهود من بلدان عربية وشرق أوسطية بسوق العمل، والأكاديميا، وبيروقراطية الدولة، وأذرعها الأمنية والعسكرية. ورغم أن هؤلاء ورثوا شكاوى آبائهم وما لحق بهم من إهانات وظلم على يد النخبة الأشكنازية الحاكمة، في العقود الأولى من عمر الدولة، إلا أنهم كانوا أكثر اندماجاً في البنية الاجتماعية، وإيماناً بقدرتهم على التغيير، خاصة مع سياسات الهوية في الحقل الثقافي، وسياسات الليبرالية الجديدة في الحقل الاقتصادي. وفي الحالتين كانت عواطفهم السياسية، وتحيّزاتهم، مع الليكود، واليمين عموماً.
سنتكلّم عن الاستيطان والمستوطنين، وتديين المجتمع وتهويده، وعلاقة هذا الأمر بموجة المستقبل، في معالجات لاحقة. كل ما يعنينا، الآن، أن خيارات القادم من أميركا كانت واضحة، وكذلك الأوساط التي يسعى لكسبها:
القاعدة الانتخابية لليمين، وما طرأ عليها من تحوّلات على يد جيلين لاحقين، اليهود السوفيات، ونجاح ما سيعرف باليمين القومي ـ الديني في التحوّل إلى قاطرة قوية لمشروع الاستيطان، مع النفوذ المتزايد لليهود الأميركيين استيطاناً، وتمويلاً، والطبقة الاجتماعية الجديدة، التي مكّنتها سياسات الليبرالية الجديدة من مراكمة ثروات غير مسبوقة، والأهم انتزاع مكانة اجتماعية تنافس المكانة التقليدية للعسكريين، وما تبقى من النخبة الأشكنازية القديمة.
سيشّكل هؤلاء خليطاً غير متجانس، بالضرورة، ولكنه يمثل أرضية صالحة لتجريب المهارات الدعائية والتنظيمية التي تشرّبها نتنياهو في بيئته الأميركية لشن حملات انتخابية ناجحة. للمال، كما الدعاية، أهمية استثنائية في حقل السياسة الأميركية، إلى حد تبدو معه السياسة صناعة، ويبدو معها الساسة أنفسهم مجرّد وسائل إيضاح لمهارات الدعاية والإعلان. لم تكن أشياء كهذه معروفة، أو حتى مُحترمة، في الحقل السياسي للإسرائيليين، في العقود الأولى من عمر الدولة. كانت للمؤهلات العسكرية أهمية لا يدانيها شيء آخر، إضافة إلى مؤهلات التاريخ الشخصي، والإسهام في قيام الدولة، وحرب العام 1948.
وفي سياق تجريب مؤهلاته غير المسبوقة، أنشأ نتنياهو بنية تحتية لحصر الناخبين المحتملين لا في كل مدينة وحسب، بل وعلى مستوى الأحياء أيضاً. وقد تكفّل بهذه المهمة أعضاء الليكود في مناطق سكناهم، الذين ذهبوا إلى الناس في بيوتهم لاستطلاع الرأي، وتوزيع المنشورات الدعائية، ودعوتهم للمشاركة في الانتخابات. يذكر أحد كتّاب سيرته أنه كان حريصاً على هندامه بطريقة غير مألوفة، وكان يضع قميصاً إضافية في حقيبة اليد لكيلا يبدو متسخ الثياب. كانت صورته هي حملته، ورسالته هي بلاغته، إذا أعدنا صياغة العبارة التقليدية لمارشال ماكلوهان «الرسول هو الرسالة» مع قليل من التحريف. وبهذا المعنى، وفيه، نعثر على الجذر الدلالي لعبارة «السيد أمن» Mr. Security التي ستُطلق عليه لاحقاً.
لم تكن رسالة نتنياهو تحليلاً سياسياً، أو مرافعة أيديولوجية على طريقة العماليين القدامى، ولا كانت سرداً لأرقام ومعطيات وحقائق لإقناع ناخبيه ومستمعيه بجدوى ما يقول، بل كانت عبارات قليلة ومقتضبة، ليست صحيحة بالضرورة، ولكنها تثير الخوف، أو تستنفر العواطف السياسية والقومية، والدينية، كلما دعت الحاجة.
كان الجمهور الانتخابي الجديد، الذي ذكرنا مكوّناته قبل قليل، بيئة طبيعية، خاصة مع ثورة الاتصالات الجديدة في التسعينيات، لهذا النوع من الدعاية. وبدت مؤهلات نتنياهو الدعائية، ومهاراته الإعلامية، وكأنها لم تُخلق إلا لهذا. وافق شنٌّ طبقة، كما تقول البلاغة التقليدية. فاصل ونواصل على طريق الحرب التي غيّرت العالم.
