جاء مشروع القانون التنظيمي للأحزاب السياسية في سياق دقيق يطبعُه حراك اجتماعي متجدد، ومساعٍ رسمية لاستيعاب مطالب الشباب الغاضب من المشهد العام. وقد حمل المشروع في طيّاته تعديلاتٍ تُوحي بالاستجابة لهذه الدينامية، من خلال فتح باب الترشح المستقل، وتخصيص دعم مالي مباشر له، فضلاً عن تعزيز تمثيلية النساء على المستوى الجهوي.

إلا أنّ خلف هذا التجاوب الظاهري، يلوحُ سؤال جوهري لا يمكن القفز عليه: هل يمكن للدولة أن تستمرّ في توجيه الضربات المتتالية للأحزاب، وهي التي شكّلت ولا تزال صمام الأمان في مسار البناء الديمقراطي الوطني؟

إنّ تبنّي خيار الترشح المستقل، وإن بدا في ظاهره انفتاحاً سياسياً وتشجيعاً للمشاركة الشبابية، إلا أنه يخفي في عمقه نزعةً نحو تبخيس الأحزاب وتقزيم دورها، بل ويمهّد لمرحلة جديدة من صناعة أحزاب على المقاس، تُفرغ العمل السياسي من جوهره وتفتح الباب أمام موجة من الشعبوية التي أثبت التاريخ خطرها على الدولة والمجتمع معاً.

فالديمقراطية ليست مجرد أصوات في صناديق الاقتراع، بل هي ثقافة مؤسساتية لا يمكن أن تُختزل في مبادرات ظرفية أو ردود فعل آنية على احتجاجات الشارع. والأحزاب، على علّاتها وأزماتها البنيوية، تظلّ التجسيد الأرقى لهذه الثقافة، لأنها الإطار الشرعي الذي يؤطّر المشاركة، وينقل المطالب إلى مؤسسات القرار، ويُحافظ على التوازن بين الدولة والمجتمع.

ولئن استبشر بعض الشباب، بل وحتى بعض المنتمين إلى أحزاب سياسية، بهذا المقترح وهرعوا إلى المنابر الإعلامية للتصفيق له، فإنّ ذلك يُعبّر عن انزلاق خطير نحو خطاب التبخيس الذي يفرّغ الفعل السياسي من معناه، ويحوّل الممارسة الحزبية إلى تهمة بدل أن تكون رافعة للمواطنة.

إنّ من المؤسف أن نرى قيادات حزبية صعدت على أكتاف التنظيمات، تتنكر اليوم لأطرها ولرمزيتها، وتتماهى مع موجة خطابية لا تمتّ بصلة لجوهر الديمقراطية التشاركية التي كرسها دستور 2011. فالأحزاب ليست منافساً للشباب أو النساء، بل هي الحاضنة الطبيعية لهم، وهي التي أنجبت النخب الوطنية، ودافعت عن استقلال الوطن، وصانت وحدته الترابية، وساهمت في ترسيخ قيم الحداثة السياسية والتعددية.

نعم، الجسم الحزبي مريض، لكنه ليس ميتاً. ونعم، الإصلاح ضروري، لكن لا إصلاح خارج المؤسسات ولا تجديد خارج الإطارات الشرعية.

ومن ثَمَّ، فإنّ على الدولة، إذا كانت فعلاً حريصة على تفعيل النموذج الديمقراطي، أن تحمي الأحزاب لا أن تضعفها، وأن تضمن لها فضاءً تنافسياً شفافاً ونزيهاً، بدل الانخراط في مقاربة تُكرّس الفردانية السياسية وتُهدّد التوازنات المجتمعية التي قامت عليها التجربة المغربية منذ الاستقلال.

فالإصلاح الحقيقي لا يكون بالالتفاف على الوسائط، بل بتأهيلها وتمكينها، لأنّ الأحزاب ليست نقيضاً للديمقراطية، بل هي شرطها الأول ومحرّكها الأصيل.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.