تواجه الأسر السودانية ومعلموها وضعًا تعليميًا مأزومًا، إذ تحوّلت المدارس الحكومية إلى عبء مالي ثقيل على أولياء الأمور، بينما تخلّت الدولة عن تمويلها، وتفاوتت الرسوم من منطقة لأخرى وسط اتهامات بالفساد واستغلال الحرب لتبرير الجبايات..

التغيير: كمبالا : تقرير

لم تكن تهاني، وهي أمّ لسبعة أطفال، تدرك أن عجزها عن دفع الرسوم المدرسية سيضع مستقبل أبنائها على المحك. ففي محلية كرري، حيث تقيم، طالبتها إدارة المدرسة الحكومية بمئة ألف جنيه لابنها الأكبر في المرحلة المتوسطة، وخمسين ألفًا لكل من أشقائه الثلاثة في المرحلة الابتدائية، تحت بند “تسيير العام الدراسي”.

تقول تهاني لـ«التغيير»: «بعد تفاوضٍ طويل خفّضت إدارة المدرسة المبالغ بنسبةٍ طفيفة مراعاةً لظروفي، لكنني لم أستطع دفعها، فزوجي عاطل منذ اندلاع الحرب، وأنا أبيع الشاي بالكاد نوفر الطعام، فكيف أدفع هذه المبالغ؟».

السلاح بدل القلم

اضطرت تهاني لإبقاء أطفالها الصغار، الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و9 و6 أعوام، في المنزل، بينما انضم ابنها الأكبر، البالغ من العمر 16 عامًا، إلى صفوف «القوة المشتركة» بعدما أُغلقت أمامه كل سُبل التعليم.

قصة تهاني ليست استثناءً، بل مرآة تعكس واقع التعليم في السودان، حيث تحولت المدارس إلى عبء على الأسر، وأصبح حق التعلم مرهونًا بالقدرة على الدفع أو الولاء لمن يسيطر على المنطقة.

في محلية كرري تتباين رسوم التسجيل بالمدارس الحكومية، إذ تتراوح بين 30 و100 ألف جنيه، فيما تفرض بعض المدارس رسوم تسيير شهرية تبلغ ثلاثة آلاف جنيه، وفق المعلومات التي تحصلت عليها «التغيير».

تواجه الأسر صعوبة كبيرة في سداد الرسوم المدرسية السنوية

أما رحمة، فتقول إنها لم تضطر إلى سحب ابنيها من المدرسة، لكنها تواجه صعوبة كبيرة في سداد الرسوم المدرسية السنوية. وتوضح لـ«التغيير»: «لديَّ ولدان، الأكبر في الصف الثالث المتوسط، فرضت عليه المدرسة خمسين ألف جنيه، والصغير في المرحلة الابتدائية طُلبت عنه ثلاثون ألفًا، وعند اقتراب فترة الامتحانات تُفرض عشرة آلاف جنيه أخرى».

في ولاية تعمل المدارس بجهود أهلية

وتلفت رحمة إلى نقطة تراها جوهرية، وهي أن التعليم في المدارس لم يعد كما كان. تقول إن المعلّمين فقدوا اهتمامهم داخل الفصول، بعدما تحوّلت الدروس الخصوصية إلى مصدر دخلهم الأساسي.

وتضيف لـ«التغيير»:«من لا يذهب إلى الدروس الخصوصية لا ينجح، فالمعلّمون يشرحون فقط لمن يدفع. الحصة الواحدة تكلف نحو ألف وخمسمائة جنيه، وفي كل مساء ترى الأطفال يحملون كراساتهم متجهين إلى ما يُعرف بـ(الدرس الخصوصي)، بدل أن يعودوا إلى اللعب أو المذاكرة في منازلهم».

رسوم باهظة على النازحين

كما تلفت رحمة النظر إلى أن معاناة الأسر النازحة من الفاشر ونيالا لا تقلّ قسوة، إذ تُفرض عليهم رسوم سنوية باهظة في المدارس الحكومية بمحلية كرري تتراوح بين 250 و400 ألف جنيه للتلميذ الواحد. وتضيف: «بعض الأسر اضطرت إلى سحب أبنائها من المدارس أو نقلهم إلى مدارس خاصة رغم ضيق الحال، بعدما طُلب منهم البحث عن بديل إذا عجزوا عن السداد».

جبايات في مناطق الجيش

في مناطق سيطرة الجيش، تحول التعليم إلى عبء ثقيل على الأسر بعد أن رفعت الدولة يدها تمامًا عن دعمه.

وبحسب بيان سابق للجنة المعلمين السودانيين بمحليتي جبل أولياء وكرري، أصدرت مكاتب التعليم توجيهات تُلزم المدارس بتحصيل رسومٍ إلزامية تحت اسم «مساهمات» بلغت 100 ألف جنيه لطلاب الصف الأول الأساسي والمتوسط. ووصفت اللجنة هذه الإجراءات بأنها «غير قانونية وتفتح الباب واسعًا أمام الفساد والنهب»، مؤكدة أنّ موارد التعليم يجب أن تُمول من الدولة لا من جيوب أولياء الأمور، ومشيرة إلى أنّ هذا النهج يعيد ممارسات النظام البائد في استغلال ضعف الرقابة لجمع الأموال من المواطنين والمعلمين.

في مناطق سيطرة الجيش تحول التعليم إلى عبء ثقيل على الأسر

يقول المتحدث الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين، سامي الباقر، في إفادته لـ«التغيير»، إن الحكومة لم تتنصل فقط من مسؤولية تمويل المدارس، بل إن مكاتب التعليم نفسها باتت تعتمد على تحصيل الأموال من أولياء الأمور لتسيير أعمالها، عبر إضافة 500 جنيه عن كل تلميذ تُورَّد إلى مكاتب التعليم من دون دورة مستندية أو إيصالات رسمية. ويشير الباقر إلى أن هذا الوضع أدى إلى ارتفاع معدلات التسرب بصورة مقلقة، وهو ما تؤكده الأرقام التي تُظهر تراجعًا كبيرًا في أعداد التلاميذ المنتظمين مقارنة بما كان عليه الحال قبل اندلاع الحرب.

آلاف الجنيهات للصيانة وترحيل المعلمين

الوضع في مدينة كسلا لا يختلف كثيرًا، إذ وجدت الأسر نفسها مضطرة لتسيير المدارس بنفسها. ويقول عضو لجنة المعلمين وولي أمر أحد التلاميذ، سيد تمبة، لـ«التغيير»، إن المدارس الحكومية فرضت رسومًا تتراوح بين 10 آلاف و100 ألف جنيه، لتغطية نفقات الصيانة ووجبة الفطور وترحيل المعلمين.

ويضيف أن “الأسر أنهكتها الحرب وانعدام الدخل، ما دفع كثيرين إلى سحب أبنائهم من المدارس أو نقلهم إلى مدارس خاصة رخيصة تفتقر لأبسط المقومات”. ويحذر تمبة من أن “رفع يد الدولة عن التعليم جعل استمراره مستحيلاً في كثير من المناطق، وفتح الباب لتسرب جماعي للتلاميذ”.

 تُترك لتقدير المدارس

في مدينة الأبيض، يصف عبد الرحيم يوسف، وهو وليّ أمر لطالبتين، الوضع بأنه «أفضل نسبيًا»، إذ يقول لـ«التغيير»: «المدارس مستقرة، والوزارة لم تفرض رسومًا مباشرة، لكنها تركت الأمر لتقدير إدارات المدارس».

وأوضح أن إدارات المدارس تعقد اجتماعات مع أولياء الأمور لطرح احتياجاتها التشغيلية، ثم يتم الاتفاق على مساهمات مالية تبلغ نحو 20 ألف جنيه للطالب في العام، بينما تفرض مدارس أخرى مبالغ أعلى.

وأشار إلى أن الرسوم ليست صادرة من الوزارة بل من إدارات المدارس بحجة تسيير العملية التعليمية، مؤكدًا أن معظم المدارس في الأبيض خالية من الوجود العسكري وأن الأوضاع مستقرة نسبيًا.

وفي ولاية الجزيرة، كشفت مصادرلـ«التغيير» أن المدارس الحكومية هناك تفرض رسوماً متفاوتة على التلاميذ، تبدأ من 50 ألف جنيه للصفوف من الأول إلى الرابع، وتصل إلى 100 ألف من الصف الخامس إلى السادس، بينما تُقدّر في المرحلة الثانوية بنحو 150 ألف جنيه.

وأشارت المصادر إلى أن هذه المناطق كانت سابقاً تحت سيطرة قوات الدعم السريع وخالية من السكان، وبعد عودة المواطنين إليها عقب تحريرها، فُرضت عليهم هذه الرسوم رغم فقدانهم ممتلكاتهم ومنازلهم أثناء الحرب.

بجهود الآباء

في ولاية شرق دارفور، يصف عمر أبو تاج المشهد التعليمي بأنه “انعكاس مباشر لانقسام البلاد بين سلطتين متنازعتين”.

ويقول إن قوات الدعم السريع أنشأت منذ العام الماضي ما يُعرف بـ”الإدارة المدنية”، وتولت فتح المدارس في جميع المراحل من الابتدائي حتى الثانوي، لكن الفصول العليا خلت من التلاميذ بعد أن استُدرج معظم الطلاب إلى صفوف القتال، سواء في الجيش عبر معسكرات الدبة أو في قوات الدعم السريع نفسها.

الوضع التعليمي المتدهور انعكاس مباشر لانقسام البلاد بين سلطتين متنازعتين

ويضيف أبو تاج في حديثه لـ«التغيير» أن المدارس تعمل بجهود أهلية، إذ لم تُفرض أي رسوم رسمية من قبل الإدارة المدنية أو السلطات المحلية، لكن تسيير العملية التعليمية يعتمد على تبرعات أولياء الأمور عبر ما يُعرف بـ”مجالس الآباء”. “استدعوا أولياء الأمور قبل بداية العام الدراسي، وطلبوا منهم المساهمة في تشغيل مدارسهم لغياب الميزانية الحكومية والدعم من المركز”، يقول أبو تاج.

نظامان منفصلان

يكشف هذا المشهد من ولاية شرق دارفور عن عمق الانقسام الذي ضرب منظومة التعليم في السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، إذ بات للبلاد نظامان تعليميان منفصلان.

ففي المناطق الخاضعة للجيش، تُدار العملية التعليمية من وزارة التربية والتعليم في بورتسودان، التي تحدد المناهج ومواعيد الامتحانات وتُعيّن المعلمين، بينما يدير تحالف “تأسيس” المدارس في مناطق نفوذه ويتحكم في الجوانب الإدارية.

ويقول المدير العام لوزارة التربية والتعليم بالعاصمة الإدارية لحكومة “تأسيس”، حافظ عمر، إن أكثر من 70% من الطلاب في مناطق سيطرة التحالف خارج مقاعد الدراسة، وهو ما يعد أحد أبرز التحديات التي تواجه القطاع.

ويوضح في تصريح لـ«التغيير» أن العملية التعليمية تواجه صعوبات بالغة في ظل الحرب وانعدام الدعم الحكومي والمنظمات الدولية، مشيراً إلى أن أكثر من 250 مدرسة ما تزال تعمل رغم الظروف القاسية بفضل مبادرات المجالس التربوية والمجتمعات المحلية.

ويضيف أن الوزارة في مناطق سيطرة  “تحالف تأسيس” لا تفرض رسومًا على الطلاب، بل تعتمد على مساهمات شعبية اختيارية لتغطية نفقات التشغيل اليومية، بعد توقف الدعم من منظمات مثل اليونيسف واليونسكو.

طريق ثالث للتعليم

من جانبه، يرى المتحدث باسم لجنة المعلمين أن ما يقوم به الدعم السريع في مناطق سيطرته يتمثل في اتهام المعلمين المخالفين له بموالاة سلطة بورتسودان، الأمر الذي أدى إلى اعتقال عددٍ منهم، كما حدث في «حادثة عد الفرسان».

نحن بحاجة إلى طريق جديد يعيد للتعليم شموليته وعدالته

وأشار إلى أن الدعم السريع لا يوفر مرتبات للمعلمين، مما تسبب في توقف العملية التعليمية باستثناء بعض المحاولات المحدودة، مؤكداً أن البلاد بحاجة إلى “طريق ثالث” يعيد للتعليم شموليته وعدالته، ويقود إلى بناء نظام موحد يضمن الجودة والاستمرارية.

ومع غياب السياسات الموحدة يبقى مستقبل جيلٍ كاملٍ مهددًا بالضياع بين جبايات الدولة في مناطق الجيش، وعسكرة التعليم في مناطق الدعم السريع.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.