آخر تحديث:

في العراق، الكذب لم يعد خطيئة، بل نظام حكم متكامل. القائد يكذب وهو يبتسم، والوزير يكذب وهو يقسم، والناطق باسم الحكومة يكذب وهو يقرأ البيان من ورقة كُتبت بلغة “لا علاقة لها بالواقع”.أصبح الكذب في السياسة العراقية أشبه بالنفط: ثروة وطنية لا تنضب، تُستخرج مع كل أزمة، وتُكرر في كل خطاب. كل وعدٍ حكومي يولد ميتًا، وكل تصريح رسمي يُدفن قبل أن يجفّ حبره.

السياسي العراقي لا يخجل من الكذب، بل يمارسه بفخر واحتراف، كأنه بطولة وطنية. فمن “الكهرباء المستمرة” إلى “محاربة الفساد”، ومن “فرص العمل” إلى “الرفاهية القادمة”، ومن انهاء “المحاصصة” الى توزيع “المناصب على الابناء والاقارب و الكوادر الحزبية”، كلهم يتحدثون وكأن العراق يعيش في سويسرا، بينما المواطن يغرق في الطين والظلام.

الانتخابات: أكذب من نشرة الأخبار

حين تأتي الانتخابات، تتحوّل الكذبة إلى مهرجان رسمي للوهم. تُمطرنا الشاشات بصور المرشحين وهم يزورون الأسواق، يبتسمون للفقراء، ويتحدثون عن “التغيير القادم”. ونعرف جميعًا أن التغيير الوحيد سيكون في رصيدهم البنكي، لا في حياة الناس.يبدأ موسم الوعود، وتنطلق اليافطات التي تعد بكل شيء:

كهرباء، إسكان، وظائف، أمن، عدالة…

وكأننا على وشك دخول الجنة بعد الاقتراع!

لكننا نفيق بعد الانتخابات لنجد أنفسنا في الجحيم نفسه — فقط بعض الوجوه تغيّرت، والفساد بقي سيد الموقف.مقاطعة المسرحية في هذا المشهد العبثي، يصبح الامتناع عن التصويت موقفًا سياسيًا ناضجًا، لا ترفًا ولا هروبًا.

المقاطعة هنا ليست كسلًا، بل صرخة ضد التزييف.هي رسالة تقول: “لن نمنحكم شرعية جديدة لتكذبوا باسمنا بعد اليوم”.من يذهب إلى صندوق اقتراع في انتخاباتٍ نتيجتها مكتوبة مسبقًا، كمن يشتري تذكرة سينما لفلم شاهده ويعرف نهايته: الزعيم سيفوز، الشعب سيُخدع، والكهرباء ستعود “قريبًا”… منذ عشرين سنة وهي تعود “قريبًا”!

الحقيقة المُرّة

الحكومات العراقية المتعاقبة جعلت من الكذب سياسة دولة، ومن الشعب جمهورًا في مسرحية عبثية طويلة.يتحدثون عن “الشفافية”، وهم يخفون الحقائق خلف الجدران،وعن “الإصلاح”، وهم يسرقون باسم القانون،وعن “الوطن”، وهم يقتاتون على جراحه.إنهم لا يريدون شعبًا واعيًا، بل جمهورًا مطيعًا يصفق بين الكذبة والأخرى.لكن ما لا يدركونه أن الشعب بدأ يفهم اللعبة، وأن صمته لم يعد علامة رضا، بل هدوء ما قبل الانفجار.

الخاتمة

بلد غني بالنفط، فقير بالكهرباء. غني بالماضي، فقير بالمستقبل. غني بالوعود، فقير بالصدق. غني بساسة منافقين فقير بمسؤولين شرفاء. فلو وُزِّع الكذب كما يُوزع النفط، لأصبح العراق من أكبر مصدريه في العالم.ربما الحل بسيط: أن نُدرّس مادة “الكذب السياسي” في المدارس، كي يعرف الجيل الجديد أن الحقيقة عملة نادرة، وأن من أراد دخول السياسة فعليه أولًا أن يجيد فن الكذب والإقناع بلا دليل.وفي النهاية، ما دام القائد يكذب والشعب يصمت، وشلة المتملقين المنتفعين يصفقون فالكذبة ستستمر في حكم البلاد… وربما تُرفع قريبًا على العلم الوطني بجانب “الله أكبر” عبارة أخرى: “الوعد أكبر”.

شاركها.