مقدمة

لم تكن حركة جيل Z 212 مجرّد موجة شبابية عابرة، بل لحظة وعيٍ فردي واع لدى الشباب، وبذكاء جماعي، أعادت إلى الواجهة سؤال المركز والهامش في المغرب الحديث. فمنذ عقود، تُدار الدولة بعقلٍ مركزيّ يحتكر القرار السياسي والاقتصادي والثقافي، بينما تُترَك الأطراف الجبلية، الواحية، القروية في هوامش التنمية. ومع أن الأمازيغية حظيت باعترافٍ دستوريّ، فإن هذا الاعتراف بقي محصورًا في رمزية الدولة أكثر مما تجسّد في سياساتها. أما جيل Z 212، فقد حمل صرخة جيلٍ جديد يطالب بالكرامة والعدالة الترابية، ويضع الدولة أمام سؤالها المؤجل:

كيف يمكن أن تكون موحَّدة دون أن تكون متمركزة؟

وكيف يمكن أن تُنصت إلى تنوّعها بدل أن تراقبه؟

1. جيل بلا زعيم… لكن بوعيٍ فردي منهجي جديد

انبثقت حركة جيل Z 212 في خريف 2025 من فضاءات التواصل الرقمي، وتحوّلت بسرعة إلى حراكٍ شبابيّ أفقيّ بلا قيادة مركزية. لم تطلب الحركة إسقاطًا ولا صدامًا، بل إصلاحًا وعدالةً وإنصافا في الفرص: تعليمٌ متكافئ، صحةٌ كريمة، وكرامةٌ مواطِنة. يتحدث هؤلاء الشباب لغاتٍ متعددة العربية، الفرنسية، الإنجليزية، والأمازيغية بتنويعاتها الترابية دون عقدةٍ أو تراتبية، معتبرين أن التعدد اللغوي هو الثروة الطبيعية للمغاربة. إنهم جيل لامركزيّ بالفطرة: ينتمي إلى العالم كما ينتمي إلى قريته، يتحرك من الهامش ويخاطب المركز بلغة جديدة، لغة المشاركة لا التبعية.

2. الأمازيغية الرسمية والأمازيغية المعيشة: ازدواجيةٌ في المعنى والمصير

منذ إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001، وترسيم الأمازيغية في دستور 2011، تحقّقت خطوة تاريخية على مستوى الاعتراف الرمزي. لكن الاعتراف تحوّل إلى احتكارٍ مؤسساتيّ: فالمركزُ هو من يحدّد معنى الأمازيغية وشكلها ومجالها. وتمّ اختزال التنوّع الأمازيغي في لغةٍ معياريةٍ واحدةٍ تخضع للرقابة والهيكلة، بدل أن تُترَك لتتطور طبيعياً داخل المجتمع.

وقد حذّرت، شخصيا، في كتابي «الأمازيغية بصيغة المفرد، أو أسطورة الوحدة اللغوية الأمازيغية بالمغرب: لغة(ات) وجهة(ات): أي علاقة؟» (مطبعة ولِيلِي، مراكش، 2011) من هذا المسار، معتبرًا أن توحيد الأمازيغية قسريًا هو إفراغ لها من روحها.

فالأمازيغية، كما أقول، ليست كيانًا لغويًا واحدًا، بل نسيج من المنوعات اللغوية) لغات جهوية وتنويعات محلية ( والثقافات والذاكرات التي تشكّل مجتمعةً هوية المغرب العميقة.

3. الاقتصاد السياسي للمركزية

تكشف تقارير المندوبية السامية للتخطيط (HCP) عن صورةٍ دقيقة للخلل البنيوي، فالمناطق ذات الأغلبية الأمازيغية سوسماسة، درعةتافيلالت، بني ملالخنيفرة، والجهة الشرقية ما تزال تسجّل أعلى معدلات الفقر والبطالة، رغم مساهمتها الحيوية في الاقتصاد الوطني. ووفقًا لتقرير المؤشرات الاجتماعية للمغرب 2023، فإن نحو 75 % من المغاربة يستعملون الأمازيغية يوميًا، عكس ما تدعيه المفوضية السامية للتخطيط، بينما لا تتعدى حصة الاستثمار العمومي في هذه الجهات المعدل الوطني. كما تؤكد ميديا 24 (دجنبر 2024) أن “وزن الأمازيغية/ت في المجتمع لا ينعكس في مؤشرات التنمية”. إنها إذن مركزيةٌ اقتصادية تُغذّي مركزيةً سياسية، تتحوّل بدورها إلى مركزيةٍ أمنية تُدار باسم الاستقرار. لكن هذا “الاستقرار” الظاهري يخفي هشاشةً عميقة: غياب التوازن الترابي الذي يولّد التفاوت والإحباط ويهدّد الانسجام الاجتماعي.

4. الجهوية المتقدمة: طريق الخلاص من المركزية المفرطة

نصّ دستور 2011 على مبدأ الجهوية المتقدمة كأفقٍ لإعادة توزيع السلطة والثروة، غير أن تنزيله ظلّ محدودًا وبطيئًا. فالجهات ما تزال رهينة المركز في التمويل والتخطيط، بينما تُمارَس اللامركزية كإدارةٍ لا كسياسة. لكن الجهوية الحقيقية ليست خريطةً ولا حدودًا؛ إنها ثقافةُ تدبيرٍ محليٍّ للقرار، تعيد الاعتبار للتنوّع، وتربط التنمية بالمجال لا بالعاصمة. عندما تمتلك كل جهةٍ استقلالها المالي والإداري والثقافي، تستطيع أن تطوّر نموذجها الخاص في التعليم، واللغة، والاقتصاد.

إنّ الجهوية المتقدمة ليست تفكيكًا لوحدة الدولة، بل تجديدٌ لرمزيتها ولمعناها؛ فهي تجعل الوحدة نتيجةَ تنسيقٍ أفقيّ، لا نتيجةَ تبعيةٍ عمودية.

5. جيل Z 212: الجهوية من الأسفل

على الأرض، مارس جيل Z 212 الجهوية قبل أن تُطبَّق رسميًا. فهو تنظيم أفقي، تعددي، ينبع من المبادرات المحلية. كل مدينةٍ وكل إقليمٍ يعبّر بطريقته عن مطالبه، في ما يشبه ديمقراطيةً ترابية ناشئة. بهذا المعنى، يشكّل الحراك تمرينًا مدنيًا على اللامركزية، وإعلانًا غير مكتوب عن نهاية احتكار المركز للشرعية والمبادرة. لقد فهم الشباب تلقائيا وبالحدس أن التغيير يبدأ من التراب، لا من الخطابات. وأن الأمازيغية بكونها لغة المكان والإنسان ليست موروثًا ثقافيًا فحسب، بل منهج حياةٍ في المشاركة والمسؤولية.

6. من مركزية السلطة إلى مركزية التراب

لا يمكن للمغرب أن يتجاوز أزماته ما دام أسيرًا للمعادلة القديمة: الرباط تُقرّر، والبقية تُنفّذ. هذا النموذج، الذي وُلد في زمن الحماية وتواصل بعد الاستقلال، صنع دولةً قوية من الأعلى وضعيفة من القاعدة. إن الانتقال نحو دولةٍ ترابيةٍ ديمقراطية يتطلّب ثلاث قطيعاتٍ متكاملة:

• قطيعة سياسية: منح الجهات سلطاتٍ فعلية في التخطيط، والتعليم، والثقافة، واللغة؛

• قطيعة اقتصادية: توجيه الاستثمارات وفق الحاجات المجالية لا الامتيازات الإدارية؛

• قطيعة رمزية: إدراك أن التنوّع الأمازيغي ليس هامشًا تجميليًا، بل أساسُ توازنِ الهوية المغربية.

فقط عندها يمكن الحديث عن دولةٍ عادلةٍ تساوي بين المركز والهامش، وتحوّل “الوحدة في التنوع” من شعارٍ إلى ممارسةٍ ملموسة.

خاتمة

نحو مغربٍ ينصت إلى تراباته Territoires قبل أن يحكمها

لا يرفع جيل Z 212 شعارات الهدم، بل يبشّر بثقافة الإصلاح العميق من الأسفل. هو جيل يريد دولةً تسمع أكثر مما تُراقب، وتشارك أكثر مما تُملي. إنّ تجاوز منطق المركزية الأمنية والسياسية لن يتحقق إلا بإرساء رؤية ترابية جديدة تُعيد للجهة دورها في القرار، وللمواطن مكانته في التنمية. حينها فقط، ستتحول الدولة إلى مغربٍ ينصت إلى تراباته Territoires قبل أن يحكمها وستتحوّل الأمازيغية من “ملفٍّ ثقافيّ” إلى مشروعٍ مغربي جامع، وستغدو الجهوية المتقدمة تصحيحًا لمسار التاريخ لا مجرّد ورقةٍ إدارية. فالأمازيغية ليست لغة الماضي فقط، بل لغة المستقبل المتنوع والمتعدّد. والجهوية ليست خطرًا على الوحدة، بل ضمانتها الحقيقية.

* أستاذ باحث جامعة القاضي عياض

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.