كتب : محمد الباريسي



12:26 م


23/10/2025


الوادي الجديد محمد الباريسي:

يقع موقع عين الخراب بين معبد هيبس وجبانة البجوات الشهيرة في واحة الخارجة، وعلى مقربةٍ من هذا الخطّ الأثري الممتدّ، تُبرز اللقى المعمارية والفنية ملامح مدينة سكنية رئيسية في بدايات العصر القبطي (القرنان الرابعالسادس الميلاديان)، مع إعادة استخدام لمنشآتٍ رومانية أقدم، ثم تحوير بعض العمائر الجنائزية لأغراضٍ معيشية في النطاق الإسلامي المبكر.

تقول الدكتور سهام بحر، مدير منطقة الآثار القبطية والإسلامية بالخارجة، لمصراوي، إن المنطقة تقدّم أوّل مقطعٍ زمني متصل لحياة الواحات بين ثلاثة عصور، وتشرح كيف انتقل المجتمع المحلي من الطقوس الوثنية إلى الكنيسة، وصولًا إلى تشكيل نواة استقرارٍ جديد بعد دخول الإسلام.

تشرح سهام، أن المنطقة بها تسلسل زمني يتضمن العصور التالية:

العصر الروماني: شواهد مبانٍ بالطوب اللبن ذات وظائف خدمية ومخازن حبوب مستقرة في الأرض، مع أفرانٍ يومية تؤشر على اقتصادٍ منزلي يعتمد التخزين طويل الأمد.

بدايات العصر القبطي: إعادة توظيف جزء معتبر من العمائر، وبناء كنيستين مختلفتي الطراز، وظهور جدارية مسيحية تمثّل السيد المسيح وهو يشفي أحد المرضى، إلى جانب كتابات قبطية على بعض الجدران.

العصر الإسلامي المبكر: تحويل بعض المباني الجنائزية إلى استخدامات حياتية، بما يعكس حراكًا مجتمعيًا تدرّجيًا في طبيعة السكن والمعيشة وتوزيع الوظائف داخل النسيج العمراني.

أوضحت سهام، أن التسلسل الزمني في عين الخراب ليس مجرّد طبقاتٍ معمارية متراكبة، بل قصة تحوّلٍ اجتماعي وديني، تظهر فيها الاستمرارية أكثر من القطيعة، عبر إعادة توظيف المنشآت وتكييفها مع منظومات الاعتقاد الجديدة.

مكوّنات المدينة

يقول الخبير الأثري في الآثار القبطية بالوادي الجديد، منصور عثمان، لمصراوي، إن المنطقة بها مساكن وكنيستين وجدارية مسيحية فبالنسبة للمساكن فهي غرفٍ مبنية بالطوب اللبن، جرى كسوة بعض جدرانها بالملاط لتقوية السطح الداخلي ومقاومة العوامل البيئية، مع مناطق خدمية تحتضن أفران الاستخدام اليومي، وإلى جوارها ظهرت حواصل من الطوب اللبن وأوانٍ فخارية كبيرة مثبتة بالأرض، أُعدّت لتخزين الحبوب والطعام، في صورة نموذجية لاقتصادٍ منزلي بواحةٍ تعتمد على الاستقرار لا الترحال.

وأضاف منصور، أن الكنيستين فالأولى هي الكنيسة البازيليكية على طرازٍ بازيليكي من الطوب اللبن، تتألف من صالةٍ كبيرة وجناحين، يفصل بين كل جناحٍ والآخر ثلاثة أعمدة مربعة على الجانبين، فيما تحيط بالجهة الجنوبية مبانٍ خدمية مرتبطة بوظائف الكنيسة وشؤونها اليومية والثانية هي الكنيسة الصغيرة عبارة عن مبنى مستطيل صغير الحجم تحفّ به بقايا سبعة أعمدة خارجية، وقد زُيّنت بعض جدرانه بكتابات قبطية، وعُثر في جهته الغربية على بقايا مبانٍ خدمية تؤكّد أنّ النطاق الديني كان متصلاً بوظائفٍ معيشية مباشرة.

ولفت منصور، إلى أن الجدارية المسيحية هي أحد أبرز ملامح الكشف؛ لوحة تمثّل السيد المسيح يشفي أحد المرضى، تضيف بعدًا لاهوتيًا وفنيًا للتجمّع السكاني وتوثّق حضور الأيقونة الشفائية في الوعي الديني المبكر لسكان الواحات.

وتابع قائلًا: إنّ الخريطة المعمارية في عين الخراب تكشف عن وحدة سكنيةخدميةدينية متكاملة، وأنّ نمطي الكنيستين يقدّمان دليلًا بصريًا على التنوع المعماري داخل النطاق القبطي المبكر في الواحات.

لقى متنوعة

قالت مديرة الآثار القبطية بالخارجة، إن المنطقة بها مجموعة من الأوستراكات (شظايا فخار تحمل كتاباتٍ مختزلة)، وأوانٍ فخارية وأدوات حجرية وزجاجية، إلى جانب مجموعة من الدفنات التي تُلقي الضوء على عادات الدفن في تلك المرحلة حيث إن اللقى الصغيرة تُعدّ مفتاح قراءة الحياة اليومية من تدوين المراسلات السريعة على الأوستراكات، إلى أنماط التغذية والتخزين، وصولًا إلى معاني الدفن وتحوّلاته بين الروماني والقبطي والإسلامي المبكر.

ارتباط المكان بالشبكة الأوسع

تنبع أهمية عين الخراب أيضًا من موقعها بين معبد هيبس أحد أعمدة الوجود المصريالفارسي ثم الروماني بالصحراء الغربية وجبانة البجوات، تلك المدينة المقدسة التي تحتفظ بنحو 263 مقبرة مقبّبة من الطوب اللبن، وتُعدّ فريدة من نوعها في مصر والعالم من حيث النمط المعماري.

هكذا أوضحت مدير الآثار القبطية بالخارجة الدكتورة سهام بحر، موضحة أن الجبانة، التي تعود لأوائل العصر المسيحي، تكتنز مشاهد فريسكو زاهية اللون من قصص العهد القديم: من سفينة نوح والخروج بقيادة موسى، إلى دانيال في الجب ويونس والحوت، وآدم وحواء، إضافةً إلى رموز الطيور مثل الطاووس والعنقاء بوصفها إشاراتٍ إلى السلام والحياة الأبدية.

لفتت سهام، إلى تكاملٍ بصري بين الجدارية المكتشفة في عين الخراب ومشاهد جبانة البجوات، معتبرًة أنّ الفنّ القبطي في الواحات حمل سماتٍ محلية واضحة، مع تديّنٍ سردي يرى في الصورة وسيلة للتفسير والوعظ، لا للزينة وحدها.

شاركها.