أمد/ بين ركود الاقتصاد وتصلب السياسة… المدينة تدفع ثمن الحرب بصمت

تتوقف عقارب الساعة في القدس الشرقية، ليس إيذانًا بانتهاء مرحلة الصراع، بل لاستيعاب الثقل التاريخي للأيام الماضية التي عصفت بالمنطقة منذ اندلاع الجولة الأخيرة من الحرب. ومع الحديث عن تنفيذ المرحلة المركزية من اتفاقات وقف إطلاق النار، يجد المقدسيون أنفسهم أمام مشهد أعادت الحرب تشكيله بقسوة، تاركة ندوبًا عميقة لا تُمحى بمجرد توقف القذائف. إن ما يجري في الأراضي الفلسطينية، وغزة على وجه الخصوص، يجد صداه الأعمق في نبض هذه المدينة العتيقة التي تُعدّ دائمًا مقياسًا لحرارة الصراع وعمقه.

لقد كان العامان الماضيان بمثابة زلزال اقتصادي واجتماعي لأهالي القدس الشرقية. الأرقام لا تكذب، فإغلاق ما يقرب من 450 شركة في السوق المقدسي، إلى جانب التجميد شبه الكامل للنشاط التجاري بسبب الاختناق السياحي والأمني، ليس مجرد إحصائية عابرة، بل انهيار مادي ومعنوي حقيقي لآلاف العائلات. ارتفعت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وتحولت الشوارع التي كانت تضج بالحياة إلى ممرات خاوية يطاردها شبح الضائقة المعيشية. هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة باتت أداة ضغط غير مباشرة لكنها فعالة، تعمل على تعميق اليأس ودفع شرائح واسعة من المجتمع المقدسي نحو حافة الهاوية.

ولا يقتصر المشهد على الانهيار الاقتصادي فحسب، فمع الوجود الأمني الإسرائيلي المكثف الذي بدأ في أواخر عام 2023 ولم يُظهر أي بوادر للتراجع، تحولت القدس الشرقية إلى ما يشبه الثكنة المحاصرة بصريًا وماديًا. الأسوار الحديدية ونقاط التفتيش الجديدة لم تعد مجرد إجراءات أمنية، بل رموزًا لتقييد الحركة وخنق الحياة اليومية، تُغذي الشعور الدائم بالاضطهاد وتزيد من الفجوة بين المقدسيين ومحيطهم. هذا التضييق الممنهج هو الوجه الآخر للحرب، يُمارَس ببطء وثبات لإعادة تشكيل الخريطة الديموغرافية للمدينة وتقييد وجود أهلها الأصليين.

وفي المقابل، أنهت مفاوضات شرم الشيخ جولتها المركزية في منتصف أكتوبر الحالي بعد أيام من المداولات المكثفة، لتخرج باتفاق تهدئة مرحلي يشمل ترتيبات أمنية وإنسانية، وفتح قنوات لإعادة إعمار غزة تحت إشراف مصري وأممي. ويُنظر إلى الاتفاق على أنه أول خطوة عملية نحو تثبيت الاستقرار ووقف دوامة التصعيد التي أنهكت المدنيين في القطاع. وقد حظيت القاهرة بإشادة دولية لدورها في تحقيق هذا التقدم، الذي اعتُبر اختراقًا سياسيًا مهمًا في بيئة مشبعة بالتوتر وانعدام الثقة.

ومع بدء تنفيذ المرحلة المركزية من الاتفاق، يواجه الفلسطينيون — لا سيما في القدس — سؤالًا مفتوحًا حول مدى قدرة هذه التفاهمات على التمدد لتشملهم، أو ما إذا كانت ستبقى حبيسة الجغرافيا والسياسة في غزة وحدها.

في ظل هذه التطورات، يطرح المقدسيون سؤالهم المشروع: متى تبدأ مفاوضات إعمار القدس؟ فهذه المدينة لا تحتاج إلى إسمنت وحديد بقدر ما تحتاج إلى إزالة الجدران وتخفيف القبضة الأمنية لتعود إليها الحياة. إن غياب الملف المقدسي عن طاولات المفاوضات الإقليمية يكشف أن جذور الصراع لا تُعالج بالعمق المطلوب، وأن أي حل لا يضع القدس في قلب النقاش محكوم عليه بالبقاء ناقصًا ومؤقتًا.

في خضم هذا المشهد المأساوي، يظل التحدي الأكبر أمام الفلسطينيين هو استدامة الصمود والبحث عن استراتيجية واقعية تحفظ ما تبقّى من الثوابت. الحرب الأخيرة أثبتت أن كلفتها تقع بشكل غير متناسب على كاهل المدنيين، وأن أي حلول مؤقتة لا تُعالج جذر المشكلة — المتمثل في استمرار الاحتلال والحصار — ستعيد الدمار من جديد. وحتى حركات المقاومة التي أثبتت حضورها الميداني بحاجة اليوم إلى مراجعة سياسية توازن بين صمود الميدان وضرورات حماية المدنيين وتخفيف المعاناة اليومية.

الأمل اليوم لا يأتي من الوعود بقدر ما ينبع من جدية التحركات الجارية على الأرض. فالمجتمع الدولي، بوساطة مصرية فاعلة، أنجز خطوة مهمة في تثبيت التهدئة وتهيئة مناخ يسمح بإعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد الفلسطيني. ويبقى التحدي الأهم هو ضمان تنفيذ الاتفاقات بروح من المسؤولية والاستمرارية، بحيث تمتد آثارها إلى القدس الشرقية التي ما زالت تنزف اقتصاديًا وإنسانيًا.

لقد آن الأوان لأن تكون القدس جزءًا من الحل لا هامشًا من النقاش، وأن تُترجم التحركات السياسية والدبلوماسية الحالية إلى خطوات ملموسة تُعيد الحياة إلى قلبها النابض. فالسلام العادل لا يتحقق بالتصريحات وحدها، بل بقرارات ترفع المعاناة وتمنح الأمل. تبقى القدس صامدة، لا كرمز للتحدي فقط، بل كاختبار حقيقي لصدق النوايا في صناعة مستقبل أكثر استقرارًا وإنصافًا للمواطن الفلسطيني.

شاركها.