كشف تعثر دام لثماني سنوات متواصلة عن قصة إهمال ممنهج وتنمية مؤجلة في مدينة دمنات، حيث يقف مبنى دار الثقافة شاهدا حيا على حلم تحول إلى كابوس، وهيكل خرساني يروي للأجيال القادمة كيف يمكن للوعود أن تتبخر وكيف للمشاريع أن تشيخ وتموت قبل أن تولد.

ففي هذه المدينة الصغيرة، لا تحتاج لأن تكون خبيرا بالشأن المحلي لتلمس حجم التهميش، فالمشروع الذي تعاقب عليه ثلاثة عمال إقليميين ورئيسان للمجلس المحلي، أصبح رمزا لخذلان أعمق وجرح غائر في ذاكرة مجتمع بأكمله كان يرى فيه منارة ثقافية طال انتظارها.

انطلقت فصول هذه المأساة التنموية في عام 2017، حين أُعلن عن شراكة بين مجلس جهة بني ملال خنيفرة والمديرية العامة للجماعات المحلية والمجلسين الجماعي والإقليمي، لإحداث صرح ثقافي كان من المفترض أن ينجز في مدة لا تتجاوز ثمانية عشر شهرا.

وبدلا من اختيار أرض جديدة، قرر مسؤولو المدينة هدم الخزانة البلدية القائمة، المرفق الثقافي الذي كان يأوي عشاق القراءة في المدينة، ليتم بناء المشروع الجديد على أنقاضها، في خطوة وصفت لاحقا بالقرار “المجانب للصواب والمتسرع”، والذي ترتب عنه خسارة مزدوجة، فلا الخزانة القديمة بقيت، ولا دار الثقافة الجديدة رأت النور، ليجد شباب المنطقة أنفسهم في فراغ ثقافي تام.

أوضحت السنوات التي تلت ذلك كيف تحول المشروع إلى ورشة بناء مهجورة، حيث تعاقبت الفصول وتغيرت الوجوه في المناصب الرسمية، وبقي المبنى يراوح مكانه. وتحولت حالة الترقب الأولى إلى شعور بالإحباط، ثم إلى سخرية مريرة أصبحت جزءا من المحادثات اليومية لسكان دمنات، الذين باتوا يستخدمون المشروع كمقياس زمني للوعود التي لا تتحقق، في مدينة تفتقر بشدة إلى فضاءات تحتضن طاقات شبابها ومواهبهم الفنية.

أبرزت تصريحات المسؤولين المتعاقبة حجم التخبط الذي أحاط بالملف، فقد أشار رئيس جماعة دمنات في حوار مع أحد النشطاء بالمدينة بث على منصة “فيسبوك” قبل أحد عشر شهرا، إلى أنه التقى شخصيا بوزير الثقافة ونقل له معاناة المشروع، وهو ما أثمر عن إيفاد لجنة وزارية لزيارة الموقع. ونقلا عن المصدر، فقد تفاجأت اللجنة بجمالية تصميم المبنى ووصفته بـ”الرائع والفريد”، وتعهدت الوزارة حينها بتوفير كافة التجهيزات اللازمة فور انتهاء الأشغال. لكن الرئيس نفسه، وفي لحظة عكست عمق اليأس من إيجاد حلول، أطلق عبارته الشهيرة بأن “البناية فيها شي دعوة”، ملقيا بالمسؤولية على عاتق المجلس الإقليمي لأزيلال، ومعترفا ضمنيا بغياب أي أفق زمني واضح لإنهاء هذا المسلسل الطويل من الفشل.

وبحسب المعطيات التي حصلت عليها جريدة” العمق”، فإن مأساة دار الثقافة ليست حادثا معزولا، بل هي جزء من صورة قاتمة لمقبرة جماعية من المشاريع التنموية التي ولدت ميتة في المدينة، فإلى جانب هذا الهيكل الخرساني، ترقد أحلام أخرى في المسبح نصف الأولمبي المتوقف، والنادي النسوي الذي لم يكتمل. هذا الوضع دفع بالعديد من الفعاليات المحلية إلى دق ناقوس الخطر، مطالبين بضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، وهو المبدأ الذي ينص عليه دستور المملكة، والذي يبدو غائبا تماما في تعامل الجهات المسؤولة مع ملفات التنمية في هذه المنطقة.

وأوضح مهتمون بالشأن العام، في تصريحات متطابقة لجريدة “العمق” أن أسباب الفشل لم تكن وليدة الصدفة أو التعقيدات الإدارية فقط، بل تعود جذورها إلى سوء التخطيط منذ البداية. فقد انتقدوا بشدة قرار بناء مرفق ثقافي بهذا الحجم في مساحة ضيقة لا تستوعب متطلباته الأساسية، فهو يفتقر إلى مرآب قادر على استيعاب سيارات المرتفقين والفنانين، كما أن موقعه يجعل من المستحيل على الشاحنات الكبيرة المحملة بالديكورات والمعدات المسرحية الوصول إليه بسهولة، فضلا عن أن تصميمه المعماري يفتقر إلى أي لمسة تنسجم مع هوية المنطقة وخصوصيتها الثقافية.

وأضاف التعليقات على الموضوع أن هذا الجمود لم يمر دون محاولات خجولة لتحريك الملف، حيث وصل صدى القضية إلى قبة البرلمان في تعقيب للنائب البرلماني عبد العالي البروكي في دجنبر 2023، لم يتجاوز العشرين ثانية، ناشد فيه وزير الثقافة التدخل لتسريع إيجاد حل. وفي خطوة أخرى، قامت لجنة إقليمية مختلطة بزيارة ميدانية للمشروع في مارس 2025، تنفيذا لتعليمات عامل الإقليم، وخرجت بالتوصية المعتادة: “ضرورة الإسراع باستكمال الأشغال وتجهيز المؤسسة”. لكن هذه التحركات، لم تعد تقنع السكان الذين سئموا من لغة البيانات والزيارات الرسمية التي لا تغير من الواقع شيئا.

وطالب عبداللطيف بوغالم، عضو في مجلس جماعة دمنات، بفتح تحقيق شامل حول تعثر مشروعي دار الثقافة والمسبح البلدي، داعيا إلى توسيع التحقيق ليشمل برنامج التأهيل المندمج للمدينة للفترة 20152018 ومحاسبة كل من ثبتت مسؤوليته عن هذا الوضع.

وانتقد الفاعل السياسي، في تصريح لجريدة “العمق”، استمرار تعثر مشروع دار الثقافة لحوالي عقد من الزمن، والذي أسال الكثير من المداد منذ قرار هدم الخزانة البلدية القديمة لتشييد مبنى جديد بمعايير حديثة. وأوضح أن المشروع، الذي يندرج ضمن برنامج التأهيل المندمج، تحول إلى مثال صارخ على ما وصفه بـ “فرملة” المشاريع التنموية في المدينة، مشيرا إلى أن المسبح البلدي يواجه المصير ذاته.

وأشار المصدر ذاته إلى أن المواطنين في دمنات يطرحون أسئلة كثيرة منذ عقد من الزمن دون أن يجدوا أي إجابات شافية من الأطراف المعنية، سواء من حامل المشروع، المجلس الإقليمي لأزيلال، أو من جماعة دمنات التي يقع المشروع داخل نفوذها الترابي، أو من عمالة الإقليم، أو حتى من المقاولة التي فازت بالصفقة.

وأضاف أن مجلسين جماعيين تعاقبا على تسيير دمنات دون تقديم جواب مقنع حول هذا المشروع المعلق، لافتا إلى أن رئيس المجلس الحالي كان قد قدم وعودا بقرب افتتاح هذا الصرح الثقافي بعد المصادقة على تحويل اعتماد مالي من ميزانية الجماعة لإتمامه، إلا أن تلك الوعود لم تتحقق وبقي المشروع معلقا.

وذكر عضو المجلس أن رئيس الجماعة الحالي كان عضوا في لجان مختلفة ضمت ممثلين عن المجلس الإقليمي ووزارة الثقافة بهدف إنهاء ما أسماه “الموت السريري” للمشروع، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، حسب تعبيره. وفي ختام تصريحه، تساءل بصفته عضوا بمجلس جماعة دمنات عن الموانع التي تحول دون فتح تحقيق جدي في هذين المشروعين ومجمل برنامج التأهيل المندمج لمحاسبة المسؤولين عن هذه العرقلة.

ويبقى السؤال الذي يتردد اليوم في كل أزقة دمنات، ليس فقط متى سيفتح هذا المبنى أبوابه، بل من سيحاسب على ثماني سنوات من هدر المال العام، وثماني سنوات من تفويت الفرص على جيل كامل من الشباب كان يحلم بمسرح ومكتبة وقاعة للعروض. لقد تحولت دار الثقافة من مشروع تنموي إلى قصة تروى كدليل حي على أن التهميش ليس مجرد شعور، بل هو واقع ملموس ترويه الحجارة الصامتة لمشروع ولد ليموت على أرض مدينة تستحق ما هو أفضل بكثير.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.