كيف نواجه الخوف حين يخرج من الظل ليجلس أمامنا؟ ما الذي يجعل طقسا دينيا أو سحريا يتحول إلى مرآة تعكس هشاشتنا الوجودية؟ ولماذا يصر الخيال السينمائي على إعادة صياغة الحكايات الشعبية والأساطير القديمة في قوالب بصرية تُصيب المتلقي بالرجفة والذهول؟

وتقول شخصية لورين وارن في فيلم الشعوذة (2013): “أحيانا أشعر بأن ما يحيط بي ليس من هذا العالم”. وتختصر هذه الجملة المكثفة ماهية سينما الشعوذة؛ سينما لا تكتفي بصناعة الرعب، وإنما تسائل حدود العقل، وتعيد تفعيل المعتقدات القديمة داخل خطاب بصري حديث.

من الحكايات والأساطير والطقوس الدينية إلى علامات بصرية

تولد سينما الشعوذة من رحم سينما الرعب؛ لكنها تتمايز بتركيزها على الممارسات الغامضة والطقوس السحرية والكيانات الماورائية. ولا تهدف إلى إخافة الجسد فحسب، بقدر ما تُصوغ سؤالا فلسفيا عميقا: هل يمتلك الإنسان السيطرة على مصيره حين يقتحم الغامض حياته؟ وتُثار هذه الأسئلة من خلال حبكات تتشابك فيها الروحانيات مع الخرافة، ويتحول فيها المنزل الآمن إلى فضاء مسكون، والدمية البريئة إلى أداة لعنات.

وتتمحور هذه السينما حول صراع الإنسان مع قوى لا مرئية، وحول حدود الإيمان في مواجهة الشر. في فيلم (The Conjuring 2) ، ” الشعوذة” (2016/ الجزء الثاني) يقول إد وارن: “الإيمان هو سلاحك الوحيد”. وهذا القول يفتح باب النقاش حول الخلفيات الفلسفية التي تؤطر هذه الأعمال، حيث يتقاطع الدين مع السحر، والعقل مع اللاعقل، في جدلية لا تنتهي.

وتُبنى القصص عادة على شخصيات عادية تدخل دوائر مرعبة عن غير قصد مثل أم تحاول حماية أطفالها، ومحقق روحي يطارد لعنة قديمة، أو عائلة تواجه قوة شريرة في بيتها. وفي فيلم “لعنة لايورونا”، (The Curse of La Llorona) (2016)، تصرخ البطلة: “أشعر أن اللعنة تتنفس من حولي”. ويختصر هذا الاعتراف فلسفة الرعب في سينما الشعوذة: الإحساس بأن الخوف ليس غريبا عنا، بقدر ما يسكن تفاصيل حياتنا اليومية.

وتتمدد هذه السينما عبر جغرافيات متعددة. وتَشَكلَت في أمريكا، عبر فيلم “مشروع ساحرة بلير” (The Blair Witch Project) (1999)، الذي قدم نموذج الرعب الوثائقي الممزوج بالخرافة الشعبية. وبرزت في أمريكا اللاتينية، عبر أسطورة “لا يورونا” التي تحضر في أكثر من عمل؛ بينما في اليابان، نجد فيلم أونيبابا (Onibaba) (1964)، حيث تُستثمر الأساطير المحلية في رسم عوالم مرعبة. ويبرهن هذا التنوع أن الشعوذة لغة كونية، تختلف رموزها وتتشابه جوهرها.

تستمد هذه السينما خلفياتها الثقافية من الموروث الشعبي؛ من الحكايات التي كانت تُروى قرب النار في الليالي الطويلة، ومن الأساطير التي شكلت الوعي الجمعي، ومن الطقوس الدينية التي تحولت إلى علامات بصرية. كل ذلك يُعاد تدويره داخل خطاب سينمائي حديث.

سينما الشعوذة.. محض خيال، أم انعكاس لشيء يحيط بنا؟

تتميز الهوية السردية لهذه الأعمال بالتصاعد التدريجي للتوتر. وتبدأ الأحداث بعادية مطمئنة، ثم يظهر الغامض في تفاصيل صغيرة: باب يُفتح وحده، وظل يتحرك، وأصوات غريبة في الليل. وبعد ذلك تتعقد الحبكة وصولا إلى ذروة مواجهة بين الإنسان والقوة الماورائية. وفي لحظة الذروة، يتحدد مصير الشخصيات بين النجاة أو الاستسلام للعنة.

وتتجلى الهوية البصرية عبر اقتصاد مدروس في الضوء والظلال. وتتسلل الكاميرا ببطء إلى أروقة مظلمة، حيث الأصوات تتدرج من همس إلى صراخ، والرموز الدينية تتكرر كعلامات مقاومة: صليب ينهار أمام قوة خفية، ماء مقدس يتبخر، أو تميمة تنكسر تحت ضغط لعنة قديمة. ولا تُستخدم هذه الصور للزينة وإنما لبناء معنى عميق حول العلاقة بين الإيمان والخوف.

ويتجاوز خطاب سينما الشعوذة حدود التسلية ليفتح مساحات فلسفية. وتُعيد هذه الأفلام طرح سؤال الشر بوصفه جزءا من الوجود، وتدعو إلى التفكير في هشاشة الإنسان. وفي ” وراثي” فيلم (Hereditary) (2018) للمخرج أري أستر، تعترف البطلة: “هناك شيء شرير يسري في دمائنا”. وتعكس الجملة هنا سؤال الوراثة الملعونة، وتربط الرعب بجذور عائلية ونفسية.

وتُعيد هذه السينما أيضا وصل المشاهد بذاكرة الطفولة، حين كان يسمع حكايات عن الجن والأشباح، ويبني مخيلة عن عالم غير مرئي. واليوم، عبر الشاشة، يُستعاد ذلك الخوف لكن في قالب جمالي محكم. وهنا تكمن جاذبيتها: المزج بين الحكاية الشعبية والصورة السينمائية.

وتعمل الروابط بين الأفلام على تعميق الهوية الجماعية لسينما الشعوذة. فحين يشاهد المتلقي فيلم “أنابيل “،(Annabelle) (2014)، يشعر بأنه أمام جزء من كون مترابط مع الأجزاء التسعة لفيلم “الشعوذة”. وحين يتابع فيلم “الراهبة “، (The Nun) ،(2018)، للمخرج كورين هاردي، يكتشف أن كل فيلم ليس منفصلا وإنما جزء من شبكة سردية واحدة، مما يعزز حضور الأسطورة في وعي المتلقي.

وتكشف سينما الشعوذة عن قوتها لأنها لا تعالج الرعب الخارجي فقط، بقدر ما تحفر في أعماق النفس الإنسانية. وتُظهر كيف يمكن للخوف أن يتغذى من هشاشتنا، وكيف يمكن للطقس السحري أن يصبح استعارة عن قلق وجودي. وعندما ينتهي الفيلم، يبقى السؤال معلقا في ذهن المشاهد: هل ما رأيناه محض خيال، أم انعكاس لشيء يحيط بنا فعلا؟

البطل في سينما الشعوذة.. ممرات الخوف وأسئلة الوجود

تتدفق أسئلة عديدة حين نتأمل سينما الشعوذة: من هو البطل داخل هذه العوالم الغامضة؟ وكيف يتشكل وعيه وهو يواجه قوى لا تنتمي للمألوف؟ وبأية أدوات يدافع عن ذاته وعن محيطه في مواجهة الماورائيات؟ وما الرؤية التي تحكم مساره وهو يسير على حافة الإيمان والجنون؟

ويتأسس حضور البطل في سينما الشعوذة على هشاشة الإنسان أمام المجهول. ولا يظهر في صورة البطل الخارق بل في صورة الإنسان الذي يرتجف أمام الظلام. وفي فيلم “الشعوذة” (2013) تقول لورين وارن: “أحيانا أبصر وجوها لا تخص هذا العالم”. وهنا يتحول البطل إلى عين تستقبل الرعب قبل أن يتحول إلى فعل مقاوم. وتُشكل الرؤية نقطة البداية، أما المواجهة فتأتي كنتيجة حتمية للغوص في أعماق الغامض.

وتقوم فكرة البطل على استحالة التفسير الكامل لما يواجهه. وتتجلى حيرته بين العقل الذي يطلب تفسيرا علميا، والروح التي تستدعي قوة الإيمان. في فيلم “الشعوذة” (الجزء الثاني/ 2016) يقول إد وارن: “الإيمان هو السلاح الوحيد”. ويختصر هذا التصريح مأزق البطل: البحث عن توازن بين العلم والاعتقاد، بين المشاهدة العقلانية والتجربة الروحية.

تتشكل حساسية البطل من إدراكه بأن العالم الذي يعيش فيه يتجاوز المادي إلى فضاءات غامضة. في فيلم “وراثي” (2018) تقول البطلة: “هناك شيء شرير يسري في دمائنا”. هنا تنكشف حساسية البطل بوصفها وعيا مأزوما، يقرأ وجوده من خلال لعنة تترسب في الجسد والعائلة.

وتنكشف رؤية البطل للعالم باعتباره ساحة مفتوحة على قوى متصارعة، بين الخير الذي يحاول حماية الإنسان والشر الذي يتغذى على ضعفه. في فيلم The Nun “الراهبة” (2018) يتحول الصراع إلى معركة روحية، حيث تقول البطلة: “الشر يرتدي وجها مألوفا”. ويكشف هذا الوعي أن الرعب لا يسكن الخارج وحده، بل ينغرس في أعماق القربى والبيت والمجتمع.

وتتشابك تمثلات البطل لذاته مع وعيه بالهشاشة. لا يتقدم باعتباره منقذا مطلقا بل باعتباره شاهدا يواجه قوى لا يستطيع دائما كبحها. في “لعنة لا يورونا” (2019) تصرخ البطلة: “أشعر بأن اللعنة تتنفس من حولي”. هذا الإقرار يعكس أن البطل لا يكتفي بالمواجهة؛ بل يعيش الاندماج مع الخوف، فيصبح جزءا من تجربته.

كيف تتلاعب السلطة بالخوف الشعبي

تفتح هذه الصورة الباب أمام تحليل الأبعاد الاجتماعية لسينما الشعوذة. وينتمي البطل هنا غالبا إلى طبقة متوسطة أو فقيرة، ويعيش قلقا اقتصاديا، ويدخل دائرة الرعب عبر البيت، وهو الفضاء الاجتماعي الأكثر قربا. رعب الطرد من المأوى، أو تهديد الأطفال، ويتحول إلى استعارة عن أزمات اقتصادية وسياسية. في Annabelle “أنابيل” (2014) لا يواجه الأبطال دمية مسكونة وحسب، وإنما يواجهون تهديدا يقتحم البيت ويهدد رمز الاستقرار الاجتماعي.

وتغوص الأبعاد السياسية في هذه السينما عبر كشفها لتلاعب السلطة بالخوف الشعبي. وحين يُستخدم الرعب لترويض الجماهير، تتحول الشعوذة إلى استعارة عن سياسات الهيمنة. فيلم The Wicker Man ، “رجل الصفصاف”،(1973) يفضح كيف تتحول الطقوس إلى أدوات سلطة، وكيف يُساق البطل إلى تضحية رمزية داخل مجتمع يقدس الشعوذة.

وتمتد الأبعاد النفسية لتكشف هشاشة الذات. وتعكس هذه السينما اضطرابات داخلية مثل القلق والفقد والوراثة الملعونة. شخصية آني في “وراثي”، تتحدث عن موت ابنتها وتقول: “كأنني محكومة بحزن يتوارثه دمي”. هنا يتحول الرعب إلى لغة تكشف اللاوعي وتفضح صراعات مكبوتة.

وتتشابك الأبعاد الرمزية والجمالية عبر صور بصرية مكثفة. وتتحول الأبواب المغلقة إلى رموز للحدود بين المعلوم والغامض، الدمى تتحول إلى استعارات عن الطفولة الملوثة، والكنائس المظلمة تتحول إلى مسارح مواجهة بين الإيمان واللعنة. الكاميرا تشتغل على الظل والضوء، والصوت يتدرج من همس إلى صراخ؛ مما يجعل الجمالية البصرية جزءا من البناء الرمزي.

وتفتح هذه السينما أيضا أفقا نقديا؛ فهي لا تكتفي بالرعب، وإنما تضع المتلقي أمام أسئلة وجودية. هل يمكن للعقل أن يفسر كل شيء؟ هل يملك الإيمان القدرة على الصمود أمام الشر؟. وفي فيلم “طارد الأرواح الشريرة” (1973) يقول الأب ميرين: “هناك شيء قديم يعود إلينا”. ويحيل هذا القول إلى نقد حداثة لم تستطع محو الأسطورة، وإلى إصرار اللاوعي الجمعي على العودة عبر صور الشعوذة.

وينكشف إذن أن سينما الشعوذة لا تُعنى بالخوف وحده، وإنما تفتح مسارا نحو التفكير الفلسفي في الوجود. ولا يمثل البطل فيها منقذا نهائيا وإنما كائنا يتأرجح بين العجز والمقاومة. القضايا التي يدافع عنها تنبع من إصراره على حماية البيت، الأسرة، أو ذاته؛ لكنه في العمق يواجه سؤالا أعظم: كيف يحيا الإنسان في عالم يتقاطع فيه الواقعي بالماورائي؟

تبقى سينما الشعوذة أكثر من مجرد نوع سينمائي، إنها مساحة بصرية وجمالية وفكرية تتشابك فيها الحكاية مع الأسطورة، والسياسة مع الطقس، والرمزية مع النقد. يخرج المتلقي منها مثقلا بأسئلة لا تنتهي، وأسير صور لا تغادر ذاكرته. ولعل جملة الأب كاراس، في فيلم “طارد الأرواح الشريرة” (1973) ، تختصر كل شيء حين قال: “أحيانا أرى الشر في عيون البشر أكثر من وجوه الشياطين”. ويضع هذا القول الرعب ليس خارج الإنسان وحده، وإنما يسكن داخله أيضا.

المصدر: هسبريس

شاركها.