عبد الله عابدين
بما أننا أوردنا موضوعة “طلاق القوة من العنف” آنفاً في مقال بعنوان: الثورة: ما هي؟، وهي موضوعة أساسية في كل الموجات الثورية السودانية العاتية، كما أوردنا ريادة الشعب السوداني في هذا الصدد، فإننا نورد ما كتبه المفكر الإنساني، وشهيد الفكر، الأستاذ محمود محمد طه عن ثورة أكتوبر:
“إن ثورة أكتوبر ثورة فريدة في التاريخ، وهي لم تجد تقويمها الصحيح إلى الآن، لأنها لا تزال قريبة عهد، فلم تدخل التاريخ بالقدر الكافي الذي يجعل تقويمها تقويماً علمياً ممكناً. ولقد يكفي أن يقال الآن إنها ثورة فريدة في التاريخ المعاصر، تمكن بها شعب أعزل من إسقاط نظام عسكري استأثر بالسلطة مدى ست سنوات. ثم إنها كانت ثورة بيضاء، لم ترق فيها الدماء، وكانت، إلى ذلك، بغير قائد، ولا مخطط، وبغير خطباء، ولا محمسين للجماهير، وتم فيها إجماع الشعب السوداني، رجالاً ونساءً، وأطفالاً، بشكل منقطع النظير، فكأنها ثورة كل فرد من أفراد الشعب تهمه بصورة مباشرة وشخصية. ولقد كانت الثورة في قوة الإجماع الذي قيضه الله لها.
ولقد كان من جراء قوة الإجماع هذا، ومن فجائية ظهوره، أن انشل تفكير العساكر فلم يلجأوا إلى استعمال السلاح، مما قد يفشل الثورة أو يجعلها، إن نجحت، تنجح على أشلاء ضحايا كثيرين.
وعندنا أن أكبر قيمة لثورة أكتوبر أن الشعب السوداني استطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس في فلسفته فيما عرف بـ”المادية التاريخية”، وتلك العبارة هي قوله: “العنف والقوة هما الوسيلتان الوحيدتان لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع”. فما برهنت عليه ثورة أكتوبر هو أن القوة ضرورية للتغيير، ولكن العنف ليس ضرورياً. بل إن القوة المستحصلة، التامة، تلغي العنف تماماً. فصاحبها في غنى عن استخدام العنف، وخصمه مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه.
وحين تنفصل القوة عن العنف ينفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديداً من معاني القوة، وتلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر ووحدة الشعور بين الناس، بعد أن لبثت البشرية طوال الحقب السابقة لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد وقوة البأس. ومفهوم القوة بهذا المعنى الأخير هو تراث البشرية من عهد الغابة، عهد الأنياب الزرق والمخالب الحمر. وهذا المفهوم هو الذي ضلل كارل ماركس، فاعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لامتداد ماضيها، وغاب عنه أن العنف سيفارق القوة بالضرورة في مستقبل تطور الإنسان، حين يصبح الحق هو القوة.
ومهما يكن من الأمر، فإن شعب السودان في ثورة أكتوبر كان قوياً بوحدته العاطفية الرائعة، قوة أغنته عن استخدام العنف، وشلت يد خصومه عن استخدام العنف. وتم بذلك إلغاء العنف عن معادلة التغيير الماركسي، إذ تم التغيير بالقوة بغير عنف، وهذا في حد ذاته عمل عظيم وجليل.”
ونورد هنا أيضاً ما قاله محمد أحمد محجوب عن هذه الثورة الفتية، لما له من تماس مع مقولة الأستاذ محمود عنها:
“تميزت ثورة أكتوبر عام 1964 في السودان بعنصر رئيس وربما فريد من نوعه، وهو أن الثورة حدثت بصورة عفوية من أجل إعادة الحكومة المدنية بعد ست سنوات من الحكم العسكري السيئ، فلم تكن لدينا خطط سرية ولا مؤامرة مؤقتة من أجل قيام حركة عصيان، ولا رموز للعمليات، ولا وحدات من الجيش مع مصفحات تنتظر الإشارة لبدء العمل، ولا وحدات كوماندوز للاستيلاء على الأبنية الاستراتيجية. لقد كانت ثورة أكتوبر 1964 ثورة جماهيرية للناس العاديين ضد سنوات من الاضطهاد.”
ومن المعلوم أن ثورة أكتوبر السودانية، التي اندلعت شرارتها في الحادي والعشرين من أكتوبر 1964 ضد نظام إبراهيم عبود العسكري، هي أول ثورة شعبية في النطاقين العربي والأفريقي فيما بعد العهد الاستعماري.
على غرار منهجنا في “القشة التي قصمت ظهر البعير” المحمل، نحتاج إلى التعرف على طبيعة القشة أو الشرارة التي أشعلت زناد الثورة وفجرتها، كما نحتاج إلى استكمال التعليل الثوري، لتكوين تصور عن طبيعة “حمولة ظهر البعير”، وهو هنا كناية عن “ظهر” الشعب السوداني.
ويجب أن نشير إلى أن استقلال السودان عن الحكم الثنائي الإنجليزيالمصري كان في العام 1956، بيد أن الحكومة السودانية الأولى تشكلت منذ عام 1953، وتولى رئاسة هذه الحكومة السيد إسماعيل الأزهري، ثم أعقبه عبدالله خليل الذي تولى الحكم لمدة ثلاث سنوات، والآخر ينتمي إلى حزب الأمة، بينما الأول ينتمي إلى الحزب الاتحادي، وهذه الأحزاب كانت تمثل كبريات الأحزاب السودانية من حيث الثقل الجماهيري آنذاك.
في ظروف توصف بأنها بالغة التعقيد، قام عبدالله خليل بتسليم مقاليد الحكم للجيش، فما لبث العسكر أن أطلوا برأسهم في “انقلاب” يقوده الفريق إبراهيم عبود في السابع عشر من نوفمبر 1958، حيث تم إلغاء الأحزاب وتعليق الدستور. وتلك سنّة ستظل ترافقنا طوال فترة حكمنا الوطني، ومن ثم حكم العسكر في السودان حوالي 59 عاماً من جملة 68 عاماً هي فترة الحكم الوطني في السودان.
وقد تخللت فترة الـ68 عاماً هذه ثلاثة عهود ديمقراطية تساوي فترتها في مجموعها 9 سنوات، مع ملاحظة أنه لا واحدة من هذه الفترات الديمقراطية تمكنت من إكمال دورتها الأولى، جراء الانقضاض عليها من قبل العسكر.
ولكن لكي نكون منصفين، يجب أن نذكر أن كل الانقلابات العسكرية التي تمكنت من الحكم في بلادنا كان يختبئ وراءها، وللأسف الشديد، مدنيون في أثواب حزبيةأيدلوجية مختلفة. في هذه العجالة، أؤكد على أنه يجب الوقوف ملياً أمام هذه الظاهرة، فما يعوق استدامة مسارنا الديمقراطي ليس فقط العسكريون، بل تلك الكيانات الحزبية التي تهوى اختراق الجيوش، واستمالتها، بل “تجنيد” أفراد ذوي نفوذ فيها لصالحها، ثم التغلغل فيها، ومن ثم إخراج هذه المؤسسة الهامة من مؤسسات الدولة عن حيادها، وتشويه عقيدتها الوطنية، وتلك جريمة في حق الوطن، لو تعلمون عظيمة.
هذه الملاحظات البسيطة توريكم بوضوح لماذا لم تستدام الديمقراطية، على علاتها، في بلادنا. أما في مستوى أعمق من الممارسة السياسية، حيث ترقد في جذور الأزمة علل أكثر أهمية وعمقاً، فهي متمثلة في قلة الوعي الجماهيري، بل قلة وعي النخب ذاتها، وانحراف دوافعها بالمصالح الضيقة، والإيغال في الذاتية، بالإضافة إلى الطبيعة الطائفية لأحزابنا الكبرى، الأمر الذي سوغ نعتها بـ”الأحزاب التقليدية”.
يجب التأكيد هنا على أن الديمقراطية، حتى لو كانت عليلة، تشكل الفرصة الوحيدة الملائمة لتعلم الشعوب والنخب من تجاربها، ومن ثم زيادة وعيها وترقيه، حيث إنها قادرة على تصحيح أخطائها، بألية مودعة في بنية الممارسة الديمقراطية في حال استدامتها. تلك هي مزية الديمقراطية الكبرى. لذلك فإن الديمقراطية بهذا الفهم تتجاوز مجرد كونها أداة حكم، لتصبح “أسلوب حياة”، وهي بذلك تمثل “حق الخطأ” للأفراد والجماعات، وحقها في التعلم من الممارسة، في حال صوابها أو خطئها، كما يذهب الأستاذ محمود محمد طه.
عودة إلى ثورة أكتوبر، كحدث مفصلي في زمانه، فمن حيث المبدأ كان الاعتراض الجوهري لجماهير الشعب السوداني، خاصة طلاب جامعة الخرطوم، على الحكم العسكري في حد ذاته، والمطالبة بعودة الحكم المدني الديمقراطي. بالإضافة إلى ذلك، اشتعلت الاحتجاجات في جنوب السودان ضد سياسات التعريب والأسلمة التي تبناها نظام الفريق إبراهيم عبود. وكانت هذه الحملة من قبل نظام عبود حملة متعجلة وشرسة في طابعها وطريقة تنفيذها، مما جر على الوطن من الويلات والآلام، وما سوف يثخن جسده بجراح وأمراض لم تبرأ، بل استفحلت وأصبحت سرطاناً ازدادت به الشقة بين شطري الوطن، ونشبت الحروب الطاحنة ذات الطابع المزمن.
تأدت المحنة بعد عقود طويلة من هذه الحروب العبثية، التي فقد فيها الكثير من شباب الوطن من الطرفين، إلى عواقب وخيمة. جراء هذه السياسات العرجاء، بل الكسيحة، انعدم الاستقرار، ومن ثم تعطلت التنمية في بلد يعد من أغنى بلدان العالم بموارده الطبيعية. يبدو أن ضمير الثورة، ثورة أكتوبر، كان مأرقاً بهذه الشؤون، ومستشعراً للمآلات الوخيمة التي ستأتي مع السنين، وفي مقبل الأيام.
في السياق اللاحق لاستمرار هذه الأخطاء الشنيعة، ماذا جنينا؟ للأسف الشديد، ذهب الجنوب في حال سبيله: “ذهب مع الريح”! وهل توقفت الحروب بعد ذهابه؟ لا، بل ازدادت وتوطنت، أليس هذا هو الخسران المبين؟
هذا ما كان من أمر الجنوب البعيد، فماذا عن الشمال البعيد؟ كانت تجري في الشمال نفسه مؤامرة كبرى، ألا وهي إغراق مدينة حلفا تحت مياه السد العالي، وتهجير سكانها قسراً إلى موقع بعيد عن مدينتهم، بل وإقليمهم برمته. ولما كان كل شيء يختص بهذه الرواية المشئومة قسرياً، فإن من رفضوا التهجير تعرضوا للعزل، وتركوا ليواجهوا أزمتهم ضد بحيرة السد المتمادية في الإغراق المتتالي، وضد نظامين عسكريين متآمرين في مأساة الإغراق والتهجير، وهما نظام جمال عبد الناصر في مصر، ونظام إبراهيم عبود في السودان، وعلى عنق هذين النظامين توضع فأس هذه الجريمة الكبرى.
هذه مجرد إشارات موجزة، في نظري، إلى المشكلات العديدة النائمة في أطراف وهوامش السودان، ليس فقط الهوامش في أطراف البلاد البعيدة، بل حتى الهوامش التي تشارك المركز موقعه الجغرافي، لكنها تخالفه في طبيعة مظالمها الماثلة.
هذا، وغير ذلك الكثير، يمثل صورة لما كان “ظهر بعير” السودان محملاً به، فتتبقت، من ثم، الشرارة التي ستقدح زناد الثورة وتفجرها. يمكن في هذا السياق اعتبار أحداث الجنوب البعيد والشمال البعيد ذاتهما كشرارات، أو كقشة قصمت ظهر البعير، وكحمولات ثقال في ذات الآن. بيد أن محاولة الولوج إلى الأحداث والظروف والآليات التي سبقت اندلاع الحدث الثوري تحتاج إلى تحليل أكثر دقة في طبيعة هذه العوامل وآليات تفاعلها، مما لا يحتمله المقام هنا.
ولا شك أنه، في بعض الأحيان، يرتبط تفجر ثورة ما بأي حدث بسيط أو مفرد، يبدو في ظاهره معزولاً وغير مرتبط بنيوياً بالحدث الثوري ذاته، ولكنه يصلح، بسبب هذه الطبيعة، أن يوصف بـ”القشة” التي قصمت ظهر البعير. بالنسبة لثورة أكتوبر، هناك أحداث كثيرة من هذا النوع، ولكن مما لا شك فيه أن الرصاصة الطائشة التي أدت إلى مقتل طالب جامعة الخرطوم أحمد القرشي شكلت نقطة حاسمة في المسار الثوري الأكتوبري، مما دفع إلى مشاركة جماهيرية أوسع، وولد تعبيراً ثورياً مشوباً بالغضب العارم، فكانت ثورتنا الأولى إبّان الحكم الوطني، والمشهورة بثورة أكتوبر.
ولما لم تكن التجربة مألوفة، ومعظم البلاد الأفريقية والعربية ترزح تحت حكم العسكر أو أي شكل من أشكال الحكم الدكتاتوري، ولم يجرؤ أي منها على مجرد الاعتراض على هذه الأنظمة، دع عنك إسقاطها بثورة شعبية سلمية، فقد وصفت بعض الأوساط الشعب السوداني بأنه “معلم الشعوب”.
أفلح شعبنا أعزلاً إلا من سلاح السلمية في إسقاط حكم العسكر الأول في بلادنا، ومن ثم أسقط سياسة التعريب والأسلمة الجبرية للجنوب التي لا تأتي باختيار الشعوب، بل تُفرض عليها فرضاً، مزيلًا أي مسحة من الحكمة في وضع السياسة والسياسات، دون إشراك الشعوب في صنعها أو الاشتراك في تطبيقها في حال اختيارها من قبلها.
إضافة إلى ذلك، فإن الثورة قد أفلحت في فك الحصار عن سكان حلفا الممانعين للتهجير القسري، فانظر كيف تشابهت قضيتا الجنوب والشمال البعيدين في مقولة قهر الشعوب وعدم إشراكها في إدارة شؤونها! كم من الزمن يلزمنا لتعلم هذه القاعدة الأقرب إلى الفطرة السليمة وذات الطابع البديهي؟ وأكثر من ذلك، كيف تتعلم هذه الشعوب إذا كانت نخبها متورطة في خطأ قاتل، بل في إحساس ممضٍ بالوصاية عليها؟ وكانت ثورة أكتوبر تحاول في مدها العارم هذا التنبيه إلى خطأ تغييب الشعب عن الحضور في مسرح التاريخ، بل صناعة هذا التاريخ.
وتلك هي الحكمة من الديمقراطية: تحقيق كرامة الإنسان. وقد كانت ثورة أكتوبر في جوهرها محاولة صادقة وهميمة في السعي نحو تحقيق هذه الكرامة، لذلك فقد احتلت موقعها اللائق في سجل الثورات الإنسانية الكبرى.
المصدر: صحيفة التغيير