تهتم مبادرة جديدة بمراكش بصيانة المعرفة بفنون وأذواق مغربية، منظمة محترفا يلقّن لتلاميذ وطلبة ومهتمين بفنون الهندسة والرياضيات “فن تسطير الزليج”.
هذه المبادرة، التي تنظمها جمعية منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته، تمتد بين أيام 18 و23 أكتوبر الجاري، في مرحلتين نظرية وتطبيقية.
ووفق معلومات توصلت بها هسبريس، فإن المرحلة التطبيقية تدفع المشاركين إلى “إعادة اكتشاف زخارف الزليج بأنفسهم من خلال تجميع القطع وفقًا لضوابط محددة”؛،حيث “يمكن القيام بهذا النشاط بشكل فردي أو جماعي؛ ولكن دون منافسة: الهدف هو تأليف شيء ما معًا يكون دقيقًا وجميلًا. يتم تسليط الضوء على فن الزليج لأنه التقنية الأكثر تطلبًا من حيث الدقة الهندسية. وبطبيعة الحال، يمكن لنفس الرسم أن يُنفذ بتقنيات أكثر مرونة، مثل الجبص المنقوش أو الخشب المزوق أو المنحوت وغيرها”.
ويقدم المحترف الموجه إلى التلاميذ والطلبة والمهتمين “جولة في أنماط الزليج المغربية والأندلسية، التي يتجلى فيها بوضوح تأثير الرقم 8 وشكل المثمن النجمي. كما يسلط الضوء على أوجه التشابه وبعض الاختلافات مع الأنماط الشرقية الأخرى (مصر، سوريا، فارس، الهند)، قبل التطرق إلى مسألة طرق التخطيط والتسطير”.
وتقول المبادرة المدنية إن الذاكرة الحضرية واكتشافات التنقيب الأثري في مدينة مراكش الحمراء تحكي تفتّح “أولى ملامح فن الزليج المغربي الأصيل”، مردفة: “لم يكن الزليج مجرد زخرفة تُزيّن الجدران؛ بل كان تُرْجماناً روحيا وَلُغَةً بصريةً تُجسّد العمل المغربي في صفائه وتناسقه الهندسي. ففي قبة المرابطين التي لا تزال قائمةً إلى اليوم قبالة باب الجامع اليوسفي، يمكن للزائر أن يلمس البذور الأولى لنهضة الزليج: خطوط هندسية دقيقة، وبدايات زخارف تحمل في طياتها وعدًا بمستقبل زاهر لهذا الفن بمادتين أوليتين: الجير الأبيض والتراب الأحمر الآجوري”.
وتزيد المبادرة: “مع مجيء الدولة الموحدية، ازداد الزليج نضجًا وتألقًا. فقد أَوْلى الموحدون العمارة عناية بالغة، فشيّدوا المساجد والقصور والمدارس فنحوا بعمارتهم بصرامة إلى الخط المستقيم خلافا لما انطبعت به عمارة الصنهاجيين التي تبنت الخط المنحني الدائري. ومن بين ما شيد الموحدون جامع الكتبيين، الذي ظل شاهدًا على فن يجمع بين الصرامة الهندسية والجمال الروحي. في هذه الحقبة، تطورت تقنيات صناعة الزليج، وتوسّعت ورشاته في مراكش، ليصير عنصرًا رئيسيًا في البناء لا غنى عنه. لقد أراد الموحدون من خلاله أن يُجسّدوا صورة الدولة القوية الموحّدة، خادمة الأمر العزيز، وأن يُدخلوا على الحجر واللون نبضًا حضاريًا خالدًا”.
وتتابع: “لقد كان اللون الأبيض والبني (الآجوري) في البداية عنوان البساطة، ثم أضيفت الألوان الأخرى مثل الأخضر والأزرق لتُثري اللوحات الزخرفية وتعكس إشراق الأرض المغربية.
ويشهد المؤرخون والباحثون على هذا الازدهار؛ فقد أشار أندريه باكار إلى أن الزليج المغربي عرف أولى مراحل نضجه الفني خلال العصر الموحدي بعاصمة خلافتهم. كما يؤكد جورج مارسيه أن مراكش كانت مركزًا رئيسيًا لصناعته وتصدير خبرته نحو فاس وتلمسان. وبعدها، سيعرف الزليج المغربي تطورا قويا مُجَددا في عمارة الدولة المرينية وإنجازاتها الفخمة بفاس”.
هذه الملاحظة تصدق في حق مراكش من خلال “شهادة الرحالة ابن بطوطة عند زيارته للمدرسة المرينية بحي القصبة (المدينة الملكية) بهذه المدينة. وسيعود الشباب للزليج بمراكش على عهد دولة الأشراف السعديين بقصر البديع وفي الأحياء الرائقة العمارة، كحي القصور والمواسين. كما يشهد عليه، إلى اليوم، دار الشرفاء المصلوحيين ودار الشرفاء المسعوديين كشاهدين من بين عشرات المعاهد والديار”.
أما اليوم، و”بعد مرور قرون طويلة على ملحمة الزليج الباهرة الجمال بمراكش، تعرف المدينة ازدهارا استثنائيا لهذا الفن من جديد منذ الثمانينيات من القرن العشرين بالمقارنة مع رواجه في المدن الأخرى. وما زال الزليج المراكشي يحتفظ بأصالته، يزين المساجد العتيقة والحديثة، ويمنح البيوت والقصور لمسة من بَلغِ العيش”؛ وبالتالي فهو “ليس مجرد صناعة “تقليدية”، بل ذاكرة حية تختزن في كل قطعة خزفية تاريخًا من الكد والإبداع، ورحلة بدأت مع المرابطين، وازدهرت مع الموحدين، وبرعت مع المرنيين والسعديين. ولا تزال تَتَجدد عصرا بعد عصر إلى زمن الأشراف العلويين”، وفق المبادرة التي تستمر في نشر هذه الذائقة وقواعد فنونها في صفوف الأجيال الجديدة.
المصدر: هسبريس