أطياف

صباح محمد الحسن

طيف أول:

المتطفّلون على موائد المجد لا يملكون إلا سهام الحسد!!

وكانت آخر البلاغات التي وجّهها بنك السودان المركزي ضد هذه الزاوية، قبل الحرب بشهرين عندما كشفت عن أبرز مظاهر الفساد المصرفي، حين استدعى البنك بعد الانقلاب المحافظ ونائبه اللذين أقالتهما حكومة الثورة من منازلهما، وصُرفت لهما مرتبات وحوافز ضخمة دون أي مهام رسمية، تعويضًا لسنتي الحكم المدني. بلغت قيمة هذه الحوافز والبدلات ما يقارب 100 مليار جنيه سوداني، في وقت كانت فيه البلاد ترزح تحت وطأة الانهيار الاقتصادي، وتعاني المؤسسات من شح الموارد.

وكان البنك يعلم أن المستندات التي بحوزتنا تثبت ذلك، ولهذا تردّد في فتح البلاغ، وبعد أن وُجّهت له انتقادات حادة لصمته، قام بفتحه بعد شهرين من نشر الزاوية. وكانت إفادتنا لمتحري النيابة وقتها أننا مستعدون لتقديم ما يثبت ذلك أمام المحكمة.

لكن يبدو أن الفساد المصرفي لفلول النظام البائد تجاوز الحدود، وحلّق في فضاءات دولية.

ففي سابقة قضائية تاريخية، أدانت أمس هيئة محلفين أمريكية بنك “بي إن بي باريبا” لدوره في تمكين نظام المؤتمر الوطني من ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وقضت بتعويض ثلاثة لاجئين سودانيين بمبلغ 20 مليون دولار. حيث أتاح البنك الفرنسي للنظام السوداني، خلال ذروة الصراع في دارفور بين عامي 2002 و2008، الوصول إلى مليارات الدولارات عبر مكتبه في جنيف، متجاوزًا العقوبات الأمريكية. هذه الأموال، وفقًا للمدّعين، استُخدمت في تمويل حملات تطهير عرقي وتهجير وقتل جماعي، ما يجعل البنك شريكًا مباشرًا في الجرائم، لا مجرد وسيط مالي.

فهذا الحكم لا يمثّل فقط انتصارًا قانونيًا للضحايا، بل يكشف عن تحوّل جذري في نظرة المؤسسات المالية العالمية إلى النظام السوداني السابق، الذي بات يحمل وصمة العار المصرفية. ومعلوم أن هذه “الفضيحة” المصرفية، التي تتجسّد في هذا التمكين المالي، لم تكن ممكنة لولا البنية المصرفية الفاسدة التي أسّسها نظام الإخوان داخل السودان. فقد حوّل النظام الجهاز المصرفي من أداة للتنمية إلى شبكة تمويل حزبي وأمني، تُدار عبر الولاء السياسي لا الكفاءة، وتُستخدم لتبييض الأموال، وتمرير الصفقات المشبوهة، وتسهيل الوصول إلى الأسواق الدولية بطرق ملتوية!!

وعملية اختراق البنوك السودانية من الداخل تبدأ بتعيين كوادر حزبية في مواقع مصرفية حساسة، ليتم تسييس القرارات المالية وتغليب المصالح الضيقة على المعايير المصرفية العالمية. هذا الفساد البنيوي جعل من السودان بيئة طاردة للاستثمار، وأفقده الثقة الدولية، وأدى إلى عزلة مصرفية خانقة لا تزال البلاد تعاني من آثارها حتى اليوم.

إن هذا الحكم القضائي الأخير لا يفضح فقط تورّط بنك عالمي، بل يسلّط الضوء على فساد النظام العالمي، وهو ما يمكن أن يكشف عن عمليات فساد مشابهة استخدمها النظام في حرب 15 أبريل، طالما أن العقلية الإخوانية ما زالت هي الماكينة التي تُدار بها الحرب.

وبلا شك، فإن المال حين يُستخدم كأداة للقمع، يتحوّل إلى دليل إدانة. وهذه السابقة تجعل النظام الحالي في السودان يواجه تحديًا مزدوجًا يتمثّل في تطهير مؤسساته المالية من إرث الإخوان، واستعادة ثقة العالم في نظامه المصرفي.

وهذا لن يحدث طالما أن القيادات المصرفية في البلاد تُعيّن وتُختار بذات المعايير التي تدفع بالكوادر المصرفية الإخوانية إلى واجهة القرار المصرفي.

لذلك ذكرنا قبل أيام أن عافية الاقتصاد والسيطرة على الذهب والمعادن لا يمكن حسمها بإعفاء المحافظ أو تعيين محافظ جديد، لأن علّة الجهاز المصرفي تكمن في اليد الفاسدة والباطشة المسيطرة على عائدات الموارد، والتي تذهب لأسر معدودة، كما قالت سناء حمد.

لذلك فإن بناء نظام مصرفي جديد يتطلّب أكثر من إصلاحات تقنية؛ يتطلّب قطيعة أخلاقية مع الماضي، وتأسيس ثقافة مالية قائمة على الشفافية والمساءلة، تضع الإنسان قبل الأيديولوجيا، وتعيد للسودان اسمه في الأسواق العالمية.

وهذا لن يتحقّق بوجود هذا النظام الذي أصبح فساده “دوليًا”، ففي الوقت الذي يتسابق فيه العالم، ويتباهى بقفزاته نحو التغيير اقتصاديًا وتقنيًا وثقافيًا، يقدّم هذا النظام للعالم إنجازاته في الفساد المصرفي الذي يستخدمه في قتل الشعب وإبادته..

طيف أخير

مجزرة المزروب هي تأكيد جديد يكشف أن قوات الجيش تتورط في جرائم ضد الإنسانية، وأن طرفي الصراع في هذه الحرب يتسابقان في عملية حصاد الأرواح.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.