أمد/ توقف القصف على غزة و لم يتوقف العدوان على كل فلسطين، واستعاد الفلسطينيون ألفي أسير ولكنهم لاستعادة فلسطين أكثر حرصا.. ووقعت اتفاقية انهاء الحرب في احتفالية مشهودة، حضرها الرئيس الأمريكي الذي يجيد كما أعلن توقيع الصفقات ولكنه فتح باب الاحتمالات على انهيارات في كل مجال.. سنكتشف بعد قليل أننا نختم مرحلة لنقف أمام مرحلة جديدة تمام الجدة انتقلنا إليها بفعل 7 أكتوبر المجيد وطوفانه الذي أطلق طوفانا في المشاعر والمواقف والحراك العالمي، ونكتشف ان الذي انتهى انما هو فصل بشع عنيف من العدوان المذعور، لنرى دوي التاريخ يفعل في الكيان والمشروع فعله بحكم السنن والنواميس.. على بحر من دمانا عبرنا بقضيتنا الى الضمير الإنساني لننفض الوعي العام حيث المجال الحيوي الذي سبقنا إليه العدو عقودا طويلة فإذا بالطوفان يحرق الرواية الصهيونية في واحدة من الثورات الإنسانية غير المسبوقة.. أليس من حقنا أن نتساءل لماذا كل هذا التساند العالمي الاستثنائي الذي يسجله الغرب الشعبي مع فلسطين ضد إسرائيل؟

المشروع الصهيوني قراءة أخرى:

هناك قوى تقف خلف اندفاعة الاستعمار الحديث نحو الهيمنة على منطقتنا، وهذه القوى هي التي تنظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الغربية، وهذه القوى هي التي تمسك بيديها القوة المالية العظمى التي تسيطر على البنوك العملاقة في واشنطن وتمتلك الشركات العظمى المنتشرة قي شتى المجالات في الصناعة والتكنولوجيا لاسيما مجمع الصناعات الحربية وشركات النفط والبنوك.. وهذه القوى هي التي جعلت من الدولار المرجعية المالية العالمية كما جعلت من صندوق النقد الدولي والبنوك المنبثقة الحاكم الفعلي على اقتصاد الدول وسياساتها.. وفي الثقافة والسياسة هي نفسه القوى التي حورت كل شيء ليخدم مشروعها وسياساتها وتكاد تجزم أن كل الأفكار الاجتماعية والثقافية المنتشرة في معظم العالم إنما هي لخدمة توجه هذه القوى التي تصنع الحروب والأوبئة والبرامج كما أنشات المنظمات والقانون الدولي وانتهت بإنشاء ديانات وجماعات وكل ذلك لتحقيق المناخ الملائم للنهب والسيطرة.. من هذه القوى وما هي إستراتيجيتها؟

هذه الملاحظة لا يجد المرء عناء ليكتشفها فكيف بدأت الحكاية؟

بدأت الحكاية من منتصف القرن التاسع عشر حيث بدأت قوى مالية عملاقة في أوروبا تتحرك بقانون الربا والتوسع في العلاقات المالية و نقلت بعض نشاطها الى الولايات المتحدة الأمريكية التي مانعت دخول هذه المجموعات في البداية حيث كانت تحرم الربا وتبعا لذلك لا ترحب بالبنوك إلا ان اختراقات ما حصلت في الإدارة الأمريكية فانتشر نشاط هذه المجموعة في الولايات المتحدة، كما استفحل نشاطها في أوربا وأصبحت ذات نفوذ لدى الساسة والحكومات.. إلا ان هذا لا يكفي لكي يتسيد هؤلاء على العالم فاتجهوا الى سبيلين في وقت واحد الأول اقتصادي سياسي والثاني سياسي عسكري.. في الأولويات وضعت هذه المجموعة او هذه العصابة أمامها هدفا لابد من انجازه يتمثل في إسقاط الإمبراطوريات القائمة حيث كان لكل منها مرجعية مالية خاصة به لا يضطر الى الارتهان لعملة أخرى ومقاييس تحركها.. فتم التركيز على تدمير الإمبراطوريات يومذاك ورغم أهمية هذا العنصر في المخطط الا انه يرافق المخطط للهجوم على كل شيء تقليدي في المجتمع الغربي تحت شعار الحرية والليبرالية حيث التخلي المستمر عن كل ثابت في القيم الاجتماعية ويحصل بها ان يتفكك المجتمع وتتحول اللبنة الأساسية فيه الى جزر معزولة هشة.. و تمكنت هذه العصابة المالية من التغلغل الى مصادر القرار والاحزاب في العالم مستخدمة أموالها الفائقة في تقديم القروض والديون للدول التي لا تجد مناصا من تقديم مقابل او على الأقل الاستعداد لذلك..

كان إسقاط الإمبراطوريات يجري على قدم وساق من خلال ثورات او تدخلات خارجية بعد ان تمكنت دوائر المستشرقين ومراكز البحوث من تقديم أطروحات لجذب الشباب والتيارات الواسعة في المجتمعات.. كان ذلك يجري فيما يتم التحضير الى بناء القاعدة الإستراتيجية للعصابة بحيث يتم من خلالها إعطاء القدرة المالية العملاقة دورها السياسي ونفوذها المساوي لقيمتها المادية.. فكان العمل على إنشاء الكيان الصهيوني.. ومن الواضح انه لا يمكن السيطرة على هذا المكان الاستثنائي في حس العرب والمسلمين دون تحقيق أهداف قبل ذلك..

تحولت المجتمعات الغربية الى مجتمعات مسلوبة رهينة لتجارب الليبرالية والتحلل شيئا فشيئا من التقليدي وهرولة حول المتعة والاستهلاك والجري بين الشركة والبنك والأقساط.. فيما تسيطر النخب المرتبطة على وسائل الإعلام والفن.. فأصبح المجتمع الغربي والأمريكي في حصار لا تظهر للعين المجردة حدوده لكن يخترق ثوابت الإنسانية لدى الفرد..

وفي الطريق يتم إزاحة أي محاولة للفكاك من الأحابيل التي تلف عنق المجتمعات والدول.. سواء كانت هذه المحاولة في الغرب او في العرب او سوى ذلك بل نراها فاقعة في مستويات عليا من الساسة كما حصل مع كيندي عندما رفض الانصياع لقرار العصابة فقتلوه.

أسقطت الإمبراطوريات و تم تفجير حربين عالميتين ذهب ضحيتها عشرات ملايين الغربيين وتم على ضوء نتائج هاتين الحربيين ان تمكنت العصابة المالية الضخمة من جعل الدولار هو مرجع العملات وان البنك المركزي وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ادوات التحكم في المال العالمي و التحكم في السلع وأسعارها.. وتم ترسيم الحدود بين الدول في أوربا وفي البلاد العربية وتقديم النخب السياسية المتصالحة مع مصالح العصابة لتحكم في بلاد العرب والمسلمين مرفوقة بجيل من المثقفين المتغربين المصنوعين في جامعات الغرب في النصف الأول من القرن العشرين كما حاول ان يحلل الدكتور الفلسطيني هشام شرابي وكما حاول لاحقا الدكتور ادوارد سعيد ان يقول في كتابه الاستشراق.

وهنا نحد مفارقة ضرورية لابد من التنبه إليها ونحن نقرأ موسوعة المفكر المصري الكبير عبدالوهاب ألمسيري الذي استغرق جهده في الحديث عن الأعراق والتجمعات وعملية الانبعاث الصهيوني في معزل عن التركيز على المخطط السياسي العالمي وبدون التركيز على الجانب المالي الذي هو مناط حديثنا هنا..

كما ان المفكر الفلسطيني وائل الحلاق الذي ذهب يفند الليبرالية الغربية وقد أبدع في ذلك الا انه كذلك ذهب ليضرب في أحد أغصان العصابة المالية المتحكمة ومن الغني عن القول ان هذه العصابة قادرة على تغيير أدواتها وأساليبها فهي ان كانت في يوم من الأيام ترى ضرورة إنشاء الاتحاد السوفيتي لإغراض مالية إستراتيجية فهي نفسها من هدم أركانه عندما فقد أهميته بالنسبة لها وليس خافيا على احد حجم لون معين كان يتحكم في الحزب الشيوعي السوفيتي والذي ارتكب مجازر في الشعوب التي كانت تحت سيطرته..

هذه العصابة المالية المتحكمة لها رؤية محددة نحو البشرية بحيث يصار الى برنامج لتقليص سكان الكرة الأرضية وصولا الى المليار الذهبي ولديها لتحقيق ذلك وسائل عديدة منها تقديم مبررات الحرب والعدوان في مكان ما او خلق حالات صراعية ويكفي ان نشير ان العرب في خلال عشر سنوات تم إبادة 4 مليون نسمة منهم في العراق وسورية.. كما ان نشر الأوبئة والحروب أسلوب مثالي لبرنامجهم.

كيف واجهنا التحدي:

لا شك أن ثقافة اليسار والقوميين والوطنيين أكثر عمقا من ثقافة الإسلاميين في ملف المشروع الصهيوني ومواجهته ذلك لتحديدهم الهدف بشكل مباشر فيما ذهب الإسلاميون إلى أولويات مختلفة تبدأ من التربية وبناء المجتمعات ومواجهة أنظمة الحكم ومظاهر العلمنة.. وما عدا مالك بن نبي المفكر الجزائري وعلي شريعتي المفكر الإيراني أكاد ان أقول ان كل ما وجدته في الفكر الإسلامي المعاصر عن المشروع الصهيوني وجذوره وامتداداته سطحي وهش..

ولا شك أن ثقافة اليسار والقوميين والوطنيين مع سبقها في هذا إلا انها محدودة بحدود الطبقة والأمة والوطن.. هي مفيدة بلا شك لكنها لا تكفي لخوض معركة حضارية كبيرة كالتي نحن ازاءها.. ولهذا كانت انتكاساتها مدوية وكأي مهزوم يعود تابعا لغالبه.

انه المشروع الصهيوني وليس الكيان الصهيوني، انه العصابة المالية الضخمة التي تستعبد الشعوب في أمريكا وأوربا وهي التي تثير الحروب في كل مكان وهي المسيطرة على الثروات والبورصات وأسعار الثروات وعلى مصانع السلاح والتكنولوجيا وعلى الإعلام والفنون.

المشروع الصهيوني الذي انطلق منذ أكثر من قرن ونصف يحكم العالم اليوم ويسير الدول والنخب والاحزاب والتكتلات يرتكز على عناصر مهمة اولها السيطرة على المرجعية المالية الشركات والربا والبنوك العالمية.. وتقدم على أرضية سايكس بيكو ليقيم دولة إسرائيل في قلب العرب وأرفق ذلك بنشاط سياسي محموم من قبل حكومات الغرب المرتبطة بالمشروع الصهيوني ومن خلال وسائل إعلام جهزت لذلك تماما في الغرب بحيث تم تمرير الرواية الصهيونية بحكم الإعلام وبحكم القضاء والقانون!! فكل من يشكك في الرواية الصهيونية يودع في السجن ويفصل من عمله او تكون الرصاصة اقرب إليه.. وذلك مرفوقا بعملية منظمة لاختراق الكنيسة الغربية وتم تجاوز الصراع التقليدي بين اليهود والنصارى وأصبحت الكنيسة الغربية لاسيما في أمريكا تبارك إسرائيل وتدعو لنصرتها كواجب ديني وأصبح النصارى بحكم هذا الاختراق في مشروع صهيوني كما قال الرئيس الأمريكي السابق بايدن.. و هنا لابد من تأمل أن حرب الصهيونية على الأديان بدأت في المجتمعات المسيحية لتحقيق أهداف كبيرة منها نزع فتيل الرفض المسيحي للهيمنة اليهودية ثم لتحويل النصارى عن قيمهم وتقاليدهم وتفسيخ الأسرة في الغرب وربط الإنسان بقيود تأوول به الى عبودية من نوع حديث وتوجيهه الى ان يكون آلة حرب على المسلمين الذين يبدون أكثر صعوبة في التخلي عن دينهم..

هذا يكشف ان إسرائيل ليست هي المشروع إنما هي ذراعه المدلل الموكل له مهمات إستراتجية في المنطقة باستنزافها وحرمانها من امتلاك وسائل القوة كما تحاول إيران ان تفعل ويتم التحكم الأمني في الإقليم بما لا يشكل خطر محتمل على عملية النهب المستمرة لثروات المنطقة.. إنها ذراع المشروع متعدد الأذرع عالميا ومحليا وإقليميا.

كيف واجهنا المشروع الصهيوني؟ لقد فشلنا عن تشخيص الداء جيدا وتعثرنا في بعض ذيوله او بعض إلهياته التي يلقي بها في ساحتنا فننشغل عنه لنشتبك في معارك ثانوية الوطنيون فشلوا والقوميون بتعدد مدارسهم فشلوا واليساريون فشلوا وكان مسلسل التجارب والأخطاء هو القانون المستبد على كل تجاربنا ولم يكن حال الإسلاميين بأحسن من رفاقهم من اليساريين والقوميين والوطنيين فلقد تم دفعهم بالإيحاء والاحتواء الى ميادين اشتباك أخرى أسهمت في مزيد من الارتباك وفي حالة فوضى المفاهيم وغياب الوعي تكاد لا تجد أي طرح متماسك في مواجهة المشروع الصهيوني بل لعله ليس عبثا أن تسمع دين كبير يقولفي برنامج ديني مشاهد: ان اليهود أقرب للمسلمين من النصارى.. واخر كان اكبر قائد حركة إسلامية يقول لو حصلت حرب بين أمريكا والاتحاد السوفيتي فنحن سننصر أمريكا ضد الاتحاد السوفيتي لان أمريكا أهل كتاب، أليس عبثا ان يدعو علماء مسلمون ريغان للإسلام بعد أن خدعوا به انه ناصرهم ضد السوفييت “الكفار”، ليس عبثا ان يتحول كل شيء في الغرب والشرق لصالح الصهاينة في فلسطين.. كل الجامعات والمصانع ومراكز البحوث في الغرب كلها مرتبطة بتقوية الكيان الصهيوني.. نحن في مواجهة إعلام وثقافة وفن كله يخدم المشروع.. إلا أننا لم نر في أحسن أحوالنا الا الجزء الظاهر منه وهو الكيان الصهيوني لذلك كنا ننهزم في كل مرة..

الصهيونيون بلغوا ذروة تسيدهم فقدموا إلى المنظمات الدولية التي صنعوها في مرحلة كجزء من النظام الدولي لخدمتهم فهدموا أركانها وهاهم يتقدمون لتدمير البقية.. وتحت انهيارات المنظمات الدولية والقانون الدولي دمروا أفغانستان والعراق وواصلوا لتدمير بقية الدول العرب بتدخلات سافرة و تصاعد الجريمة وعتوها ضد شعب فلسطين.

الطوفان ضربة إستراتيجية ضد العصابة الدولية:

جاء الطوفان المجيد ليزلزل أركان المشروع الصهيوني ويحاصره وتكون نتائجه المزلزلة من مقاومة وانكشاف الكيان الصهيوني ومن خلفه الصهاينة عن توحشهم وانحطاطهم وفقدانهم أي انتماء للأسرة البشرية انطلق الطوفان قويا ببأس شديد ليفرض على الكيان أسئلة وجودية قاتلة ويحرك المستعبدين في الغرب وأمريكا للتمرد على سياسات المشروع الصهيوني الذي أذلهم لاسيما في أمريكا ضرائب تدفع لرفاه الصهيونيين ويحرم الأمريكان من خدمات ضرورية ويتم تكميم أفواه الأحرار من ملاحظة أي اختلال في سير البلاد.. ومن هنا كان الأحرار في الغرب أكثر تفاعلا مع قضية غزة من العرب والمسلمين .. لأنهم أصحاب المصلحة بتدمير الصهيونية وهذا ما صرحوا به في مهرجاناتهم انهم يريدون فلسطين من نهرها إلى البحر.. وأنهم يطالبون بإسقاط هيمنة الصهاينة على مجالات الحياة في الغرب.. إنهم يصرحون علنا أن غزة لا تحرر نفسها فقط بل تحرر الناس في الغرب وأنها تعيد لهم وعيهم الأمر الذي عبر عنه كتاب ومفكرون من شتى الاتجاهات حتى من اتجاهات اليهود كالكاتب الصحفي الأمريكي المشهور فيردمان الذي نعى الدولة العبرية.. وإن الأمر نفسه في صفوف اليهود في أمريكا حيث تم الانكشاف عن طبيعة العصابة التي ورطت الدول والشعوب في حروب من اجل اكتناز الأموال.

وبتركيز كبير لقد كشف الطوفان بفعله فوق الخيال والمفاجئ بشكل أسطوري الغطاء عن واقع متعفن في الغرب وحقيقة هذا الكيان وطبيعته من هنا يمكن تفسير لماذا لم يشهد العالم مثل هذه الثورة العالمية مع غزة ان الأمر غير مسبوق ابدا.. لقد عرى الطوفان طبيعة المشروع الصهيوني المنتشر في العواصم الغربية وفي الحكومات الغربية واسقط في يد الإعلام الصهيوني المنتشر في العالم وتعرت الصهيونية من حججها الكاذبة وروايتها الفاسدة ولم يعد للمظلومية اليهودية أية قيمة بعد أن ارتكب الكيان الصهيوني ما لم يرتكب في حقهم حسب ادعائهم.. وثارت اوربا كلها بما فيها ألمانيا على جرائم فاقت الخيال هذا من جهة ولكنها أيضا ثارت ضد ابتزاز تاريخي تقوم به الصهيونية للدول الأوربية.

ان المتابع لما يحصل في العالم من رفض للصهاينة الدوليين والمحليين رسميا وشعبيا يتأكد أننا أمام تحولات كبيرة للتحرر من هيمنة الأشرار المجرمين الذين انهمكوا في صنع الحروب ونشر الأوبئة.. إن الوعي بالداء وكشفه إنما هو نصف العلاج.. ويتولى الأحرار مهمات النهوض في كل مكان وعلى أكثر من صعيد والمجد كله لطوفان الأقصى المجيد.. تولانا الله برحمته

شاركها.