عصام عباس

من يتابع المشهد في الشرق الأوسط هذه الايام، يدرك أن القاهرة عادت لتتحرك بثقة في محيطها، محاولةً استعادة الدور الذي طالما تميزت به كقوة إقليمية صاحبة تأثير وقرار. فبعد سنوات من الانكفاء الداخلي، تبدو مصر وكأنها تعيد ترتيب أوراقها ورسم حدود نفوذها في سباق سياسي شديد التنافس.

تراجع مؤقت… وأسباب واضحة

لم يكن تراجع الدور المصري خلال السنوات الماضية وليد الصدفة، بل نتيجة طبيعية لظروف داخلية وإقليمية معقدة.
فمنذ انتفاضة ٢٠١١ وما تبعها من اضطرابات سياسية واقتصادية، انشغلت الدولة المصرية بإعادة بناء الداخل وتأمين استقرارها، وهو ما انعكس على حضورها في الملفات الإقليمية. الأزمة الاقتصادية المستمرة بدورها كبّلت حركة السياسة الخارجية وفرضت على القاهرة أولويات جديدة.

وفي المقابل، صعدت قوى إقليمية جديدة إلى الواجهة، مستغلة الفراغ الذي تركه التراجع المصري، ونجحت في التحرك بحرية في ملفات كانت مصر اللاعب الرئيسي فيها لعقود. هذه التطورات تسببت في تغير المشهد الإقليمي، ووجدت القاهرة نفسها مطالبة بإعادة التموضع.

العودة إلى الواجهة

مؤخرا، يبدو أن مصر قررت استعادة موقعها القيادي والريادي في الإقليم.
ففي ملف القضية الفلسطينية، استطاعت القاهرة أن تستعيد دور الوسيط المركزي بديلا عن الدوحة، معتمدة على حدودها المباشرة مع غزة وعلى تاريخ طويل من السلام يربطها بإسرائيل. فقد قادت جولات تفاوضية مكثفة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وكان اجتماع شرم الشيخ الأخير مثالاً واضحاً على هذا الحضور المصري المؤثر في هذا الملف الشائك.

ليس فقط الرغبة في لعب دور الوسيط هو ما دفع مصر الي التصدي لهذا الملف المعقد ، ولكن ايضا لمواجهة المطالب الإسرائيلية والأمريكية التي دعت إلى تهجير سكان غزة نحو سيناء، فقد أعلنت القاهرة موقفها الحاسم بالرفض المطلق، مؤكدة أن أمنها القومي خطا احمرا وليس قابل للتفاوض. هذا الموقف، يحمل بعدا أمنيا داخليا، إذ تسعى مصر لمنع أي فراغ أو اختراق قد تستغله الجماعات المتطرفة على حدودها الشرقية.

ملفات الأمن والحدود والمياه

التحركات المصرية لا تتوقف عند حدود غزة. فالقاهرة تدرك أن استقرار جوارها المباشر في ليبيا والسودان ضرورة لأمنها الداخلي. لذا، تنخرط بفاعلية في مسارات الوساطة والتهدئة في البلدين، في محاولة لاحتواء الفوضى ومنع تدفق اللاجئين أو تمدد الميليشيات المسلحة إلى أراضيها.

أما ملف سد النهضة الإثيوبي، فيبقى العنوان الأبرز لأمن مصر الاستراتيجي. فالقاهرة تعتبر مياه النيل مسألة وجود، وتخوض مفاوضات مضنية مع أديس أبابا لتأمين حقوقها التاريخية، مدركة أن الصراع على المياه قد يتحول إلى اختبار حقيقي لمدى تأثيرها في القارة الأفريقية.

ما وراء الحراك المصري

لا شك أن هذا الحراك يعكس إدراك القيادة المصرية أن استعادة الريادة الإقليمية ليس امرا ثانويا، بل ركيزة لوجود ومستقبل مصر. فالقوة الإقليمية تمنح القاهرة نفوذا تفاوضيا على الساحة الدولية، وتعيد إليها صورتها التاريخية كركيزة للاستقرار في الشرق الأوسط وأفريقيا.

اختم بالقول ان القاهرة تتحرك بخطوات محسوبة لإعادة تثبيت مكانتها في معادلة الشرق الأوسط.
هذا التحرك ليس بخافيا على عين المنافس أو الخصم وبالتالي قد لا تكون استعادة النفوذ أمرا سهلا في ظل الديناميكيات الاقليمية والتحديات الاقتصادية، لكن المؤكد أن مصر عادت لتقول كلمتها، وأن شرم الشيخ لم تعد مجرد منتجع سياحي، بل ساحة دبلوماسية تعيد رسم توازنات المنطقة في مواجهة العواصم الطموحة، وفي مقدمتها الدوحة واديس ابابا.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.