التمكين… حين تحول الدين إلى غطاء للفساد السياسي

صفاء الزين

منذ انقلاب عام 1989 الذي جاء بالحركة الإسلاموية إلى سدة الحكم في السودان رُفع الشعار الديني كمدخل أخلاقي للسياسة. وعدت الحركة ببناء دولة إسلامية عادلة لكن الواقع سرعان ما كشف أن الدين استُخدم كواجهة لتثبيت النفوذ وتقاسم الموارد. سياسة “التمكين” التي وُصفت يومًا بأنها استراتيجية لبناء دولة المبادئ تحولت إلى نظام محكم لإقصاء الخصوم ومكافأة الموالين مما ترك آثارًا عميقة على المجتمع والمؤسسات.

التمكين من الشعار إلى الإقصاء

تحت شعار التمكين زرعت الحركة الإسلاموية أنصارها في مفاصل الدولة: الاقتصاد والإعلام والقضاء والتعليم. لم يعد الانتماء السياسي مجرد ميزة بل أصبح شرطًا أساسيًا للوصول إلى المناصب متفوقًا على الكفاءة والنزاهة. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية في عام 2015 احتل السودان المرتبة 165 من أصل 168 دولة في مؤشر مدركات الفساد مما يعكس حجم التحديات التي واجهتها البلاد في ظل هذه السياسات.

في الاقتصاد حُرمت شركات مستقلة من عقود البنية التحتية التي كانت تُمنح حصريًا لشبكات موالية للحزب الحاكم. في القضاء فقدت المؤسسة استقلاليتها حيث مالت الأحكام في قضايا مثل مصادرة أراضي المواطنين في كسلا ودارفور لصالح المنتفعين من النظام. أما الإعلام فتحول إلى أداة للترويج للخطاب الرسمي مع تعرض صحف مستقلة مثل “الأيام” و”السوداني” للرقابة والمصادرة المتكررة.

الدين كدرع ضد النقد

استُخدم الدين كسلاح لتحييد النقد وتكميم الأفواه. من يطالب بالشفافية يُصنف كعدو للدعوة ومن ينتقد الفساد يُتهم بمهاجمة الإسلام. هذا الخطاب أدى إلى إسكات الضمير العام لسنوات طويلة حيث أُقصي المبدعون والأكفاء إذا لم يرفعوا الشعار المناسب. على سبيل المثال في جامعة الخرطوم واجه الأكاديميون ضغوطًا مباشرة وتم استبدال رؤساء أقسام بآخرين موالين للحزب الحاكم مما أدى إلى هجرة العديد من الكفاءات إلى دول الجوار.

الأثر على المجتمع والمؤسسات

على مستوى الفرد أصبح الولاء السياسي أداة للبقاء. المواطن العادي عانى من حرمان ممنهج من الخدمات الأساسية مثل الماء والكهرباء والدواء خاصة في أحياء الخرطوم والأرياف المحيطة. وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة في عام 2019 كان أكثر من 60% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر وهو ما يعكس التدهور الاقتصادي والاجتماعي الناتج عن هذه السياسات.

على مستوى المؤسسات أُفرغت الدولة من فعاليتها. التعليم تحول إلى أداة لتلقين الولاء بدلاً من تعزيز المعرفة والخدمات الصحية أصبحت حكرًا على من يملكون الوساطة. الشباب الذين رأوا أن مستقبلهم مسدود اضطروا للهجرة أو البحث عن فرص في القطاع الخاص مما أدى إلى نزيف الكفاءات.

مقاومة وأمل في التغيير

على الرغم من هذا الواقع القاتم برزت محاولات مقاومة من داخل المجتمع السوداني. طلاب الجامعات مثل طلاب جامعة الخرطوم نظموا احتجاجات ضد سياسات التمكين في التعليم مطالبين باستقلالية الأكاديميا. صحفيون مستقلون رغم الرقابة واصلوا فضح الفساد عبر منصات بديلة. هذه الجهود التي كللت بانتفاضة ديسمبر 2018 أظهرت أن الشعب السوداني قادر على استعادة صوته.

النظام السابق وإشعال الحرب الحالية للعودة إلى السلطة

بعد سقوط النظام في أبريل 2019 لم يستسلم عناصره الإسلاموية السابقة بل سعوا إلى إشعال الصراعات للعودة إلى الوضع السابق قبل الثورة المجيدة. في سياق الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 بين القوات المسلحة السودانية SAF وقوات الدعم السريع RSF يُتهم الإسلاميون السابقون بدعم الجيش لإعادة ترسيخ نفوذهم محاولين استغلال الفوضى للعودة إلى “المربع نفسه” من السيطرة والتمكين.

ومع ذلك فإن عودتهم تبدو مستحيلة في ظل رفض الشعب السوداني الواسع لهذا النظام الذي أدى إلى ثورة شعبية واسعة إلى جانب الضغوط الدولية والتحالفات الإقليمية التي تعيق أي محاولة للعودة بالقوة أو بدون انتخابات نزيهة. الإسلاميون أنفسهم أعلنوا أنهم لن يعودوا إلا عبر صناديق الاقتراع بعد الحرب لكن التاريخ يظهر أن الشعب لن يسمح بتكرار تجربة التمكين مع تزايد الوعي الجماعي ضد استغلال الدين في السياسة.

الدروس المستفادة

تجربة التمكين تثبت أن احتكار الحقيقة باسم الدين لا يبني دولة بل يخلق طبقة فوق الدولة. اليوم بعد سقوط النظام لم يعد التحدي يكمن فقط في فضح الفساد بل في إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة. يتطلب ذلك إصلاحات مؤسسية تضمن الشفافية وتعليمًا يعزز الكفاءة واقتصادًا يتيح الفرص للجميع. السودان بحاجة إلى وطن يقدر العدالة والمساواة حيث لا يُحرم أحد بسبب انتمائه أو رأيه.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.