من يكون هذا البطل الذي يسكن عوالم لاسلو كراسناهوركاي، ذلك الكاتب المجري الذي أسرت كلماته قلب الثقافة الأدبية المعاصرة؟ وما هي تلك الأصوات الخافتة أو الصاخبة التي تنبعث من الضباب الأدبي في رواياته؟ وهل يبحث بطله عن خلاص من الخراب، أم أنه يسبح في تيّار لا قرار له؟ وهل الصمت أو الملاحظة البطيئة كافيتان لتصوير مأساة الوجود أو لتأكيد أن الفن هو آخر حصن، كما قالت لجنة نوبل عند منحه الجائزة لعام 2015، “للبصيرة والرؤيوية القوية التي يمتلكها في خضم الرعب الأبوكاليبسي”؟ في هذا التقرير نتعرف على جوانب من سيرته الإبداعية والحياتية وعلى بعض من مواقفه.

جدوى التمرد في عوالم الانهيار

يُعد لاسلو كراسناهوركاي من أبرز كتاب المجر المعاصرين، وقد كتب أعماله بلغته الأم المجرية قبل أن تُترجم إلى عدة لغات حية من بينها الإنجليزية والعربية. وكانت أولى أعماله رواية Sátántangó (1985) والتي تعني بالعربية “رقصة الشيطان”، وتدور حول قرية مجرية متداعية تتقاذفها الأوهام والخداع. ثم تبعتها رواية “كآبة المقاومة” (1989) والتي تساءل فيها الكاتب عن جدوى التمرد في عالم يوشك على الانهيار.

وفي سنة 1999 صدرت رواية Háború és háború أي “الحرب والحرب”، والتي تُعد من أبرز أعماله، حيث تأخذ القارئ في رحلة عبثية بين الزمان والمكان، ويروي فيها قصة شخصية مهووسة بمحاولة حفظ مخطوطة غامضة من الزوال. وكتب في سنة 2004 “الدمار والحزن تحت السماء”، وهو كتاب تأملي عن زيارته للصين. ثم تلت ذلك رواية Seiobo járt odalent أي “سيوبو هبطت إلى الأرض” (2008)، وهي من أكثر أعماله شاعرية وتأملاً في الجمال والفن والثقافات المنسية.

وتدور أهم محاور كراسناهوركاي حول الانهيار الأخلاقي والروحي في المجتمعات المعاصرة، وفكرة الزمن بوصفه عبئاً خانقاً، وتأملات عميقة في القدر والهوية والمصير. كما تبرز لديه ثنائية النظام والفوضى والانحطاط الثقافي مقابل جماليات الفن الخالص. وغالباً ما تكون شخصياته مهمشة ومأزومة تبحث عن الخلاص في عوالم تبدو مغلقة بلا مخرج. ولا تعتبر اللغة لديه أداة بقدر ما هي تجربة تُعاش بجمل طويلة تكسر النسق السردي التقليدي لتفسح المجال لحوار داخلي لا ينتهي.

الحب: باب مغلق وقوة مشوشة

يبدو مفهوم الحب والرغبة والحلم والسفر لدى الكاتب مختلفًا عن الصور الرومانسية المعتادة؛ فهو لا يرى الحب كتجربة خلاص وإنما كقوة مشوشة تضيع في متاهات الرغبة والخوف والانكسار. ويرتبط الحب عنده بالرغبة في الفهم أو بالتعلق بفكرة لا تتحقق؛ تقول إحدى شخصياته في رواية “الحرب والحرب”: “لقد أحببتها لأنني ظننت أنها المفتاح، لكنها لم تكن سوى باب مغلق”.

ولا تتعلق الرغبة في أعماله فقط بالجسد، وإنما بالمعنى، وبالهروب من الفراغ، وبالتمسك بما يجعل للحياة وزناً. يقول الكاتب في مقابلة: “عندما نرغب، لا نبحث عن الشيء بل عن شعور نادر بالامتلاء، ولهذا تفشل الرغبات دائماً لأنها لا تعثر على ذاتها”.

أما الحلم في نظر الكاتب، فهو ليس ملاذاً بقدر ما هو امتحان تتشكل فيه الكوابيس والوعود معاً. والحلم عنده فضاء للحقيقة كما يراها الضعفاء أو المجانين؛ تقول شخصية فالوشكا في “كآبة المقاومة”: “كنت أحلم بقطار لا يتوقف عند أي محطة، وكنت أعلم أنني سأظل عليه إلى الأبد”.

أما السفر فهو محاولة مستمرة للهروب من الذات، لكنه لا ينقذ وإنما يكشف. يقول الكاتب في “الذئب الأخير”: “سافرت حتى لم أعد أعرف لماذا، لكن الطريق علمني أنني أحمل نفسي كعبء لا يمكن التخلص منه”. ولا يمثل الحب والرغبة والحلم والسفر لدى الكاتب أهدافاً، وإنما حالات وجودية تتقاطع في صمت الإنسان وقلقه الدائم.

السقوط والشقاء الجماعي والمجتمعات المنهارة

منذ متى بدأ كراسناهوركاي الكتابة، وما هي محاور أعماله؟ أولى رواياته المهمة “سَتانْتَانْغو” (1985) تمثل بداية انطلاقته الأدبية نحو استكشاف المجتمعات المنهارة، والحياة القروية، والانسداد الاجتماعي والاقتصادي، وفكرة الزمن الذي لا يكفّ عن السقوط، من خلال مقاطع طويلة متشابكة تقود القارئ إلى رؤية الشقاء الجماعي. وبعدها، تأتي رواية “كآبة المقاومة” (1989) التي تتحوّل فيها المدينة إلى مسرح رمزي لاضطراب القوى السياسية والأخلاقية، حيث يظهر “الأمير” الغامض كقوة فوضى تهدّد النظام القائم، ويتحول السيرك الخارجي إلى مصدر توتر ذهني أكثر منه حدثاً ماديّاً.

في أعماله أيضاً “الحرب والحرب” حيث الرحلة ليست فقط في المكان، وإنما في الزمن الذي لا يهدأ، والصراع الداخلي الذي لا ينتهي؛ وهي تجربة سردية تُحوِّل الفرد إلى راوٍ متعب من التاريخ، ومن الجوع النفسي إلى البحث عن معنى، كما لو أن الشخص يبحث عن “شجرة الحياة” التي تمثل تواصلاً مع ما يفوق الانتهاء الكامل. وبين مجموعة القصص مثل “الذئب الأخير”، حيث الحكاية تأخذ شكل نواحٍ تراجيدي على وحدة الكائن الحي وانقراض بعض الموجودات، أو “رواية داخل جملة”، تُشعر القارئ بأنه في نفس فخ السرد الذي لا ينتهي.

فمن هو البطل في أعمال كراسناهوركاي؟ فهو ليس بطلاً خارقاً أو عظيماً بمعنى البطولات الأسطورية، وإنما إنسان صغير مثقل بالشكوى والرهبة من العالم، يدرك أنه لا يمتلك سلطة كبيرة على مجريات الأمور، لكنه مدفوع برغبة منضبطة أو متفرقة لفهم الانفصام بين ما هو ظاهر وبين ما هو مكنون، وبين الخراب وبين الرغبة في الجمال. وهذا البطل غالباً ما يكون عارياً من أي دور رسمي؛ فهو يتسم بصوت داخلي قوي، متمرد على الفهم السطحي، وعاشق للتفاصيل التي تبدو هامشية لكنها تكشف الحقيقة. إنه المُلاحِظ الذي لا يكتفي برؤية السطح، والمُمتحن الذي لا يرضى بطمأنينة وهمية.

وفي إحدى المقابلات قال كراسناهوركاي: “يبحث أبطالي بلا كلل، ودائماً سيكونون في متاهة، لكن تلك المتاهة ليست إلا مكان الضياع الخاص بهم، حيث لا يمكن للفرد أن يملك سوى هدفاً واحداً: أن يفهم هذا الضياع، وبنية الاضطراب الذي يعانيه، أن يجد مرهماً لمعاناته الشخصية، أو على الأقل إدراكاً بأنه لا مرهم للجُرح”.

وهنا، لا يمثل الضياع مجرد حالة مأساوية، وإنما هو محرك سردي وتصويري. ولا يختار البطل الضياع، لكنه يرزح تحته، يحاول أن يلمس جوانبه المختلفة: الأسى، الشوق، الانكسار، والرغبة في منقذ وهو غالباً ما يكون الفن نفسه، اللغة، الملاحظة، والذكريات.

رحلة الزمن والسؤال

تأتي الشخصية عند الكاتب وهي لا تستحق الجُرح، كما يقول الكاتب:

“هناك شخصيات مثل إستيكه في رواية (رقصة الشيطان) أو فالوشكا في (كآبة المقاومة)، هم جرحى على يد العالم. وهم لا يستحقون هذه الجراح، وأنا أحبهم لأنهم يؤمنون بعالمٍ حيث كل شيء رائع، بما في ذلك وجود الإنسان، وأقدر جداً أن يكون لديهم إيمان”.

وهذا الإيمان لا يُترجَم إلى تفاؤل ساذج، وإنما إلى نوع من البراءة التي تُثير التساؤل، وتحول الألم إلى معرفة، وتحول الملاحظة إلى فعل مقاومة مقاومة الصمت، ومقاومة الانهيار، ومقاومة الزوال .

وتتوالى الأسئلة: ما مقدار الحرية التي يمتلكها هذا البطل الأصمّ أمام ضجيج العالم من حوله؟ وكيف يقاوم الزمن الذي يأكل الأشياء، والذاكرة التي تتلاشى، والأمل الذي يتبدد؟ هل توجد خلاصات في الكتابة نفسها، في تحمُّل التفاصيل، وفي القدرة على المشاهدة حتى النهاية؟ أم أن الكتابة هي فعل مؤلم، لكنها أيضاً فعل ضرورة إنسانية، لأنّها وحدها تُوثِّق أن الإنسان كان هنا، يفكر، يشعر، ويعاني، ويأمل؟

وتُقدّم أعمال لاسلو كراسناهوركاي بطلًا لا يملك أجوبة شاملة، وإنما شخصاً يملك فضولاً قاسياً للشهادة على ما يقع، رغم أنه يعلم أن المسافات بين السؤال والإجابة قد تكون أبدية. وفي هذا الفضاء، يصبح الفن ليس ترفاً، وإنما شرطاً حيويّاً؛ ويصبح السؤال الذي لا يُغلق الباب أمامه أكثر من أي استجابة جاهزة، أكثر من أي انتصار دون خسارة. وهل في ذلك، ربما، تكمن عظمته؟

المكان مرآة للاضطراب

يلعب المكان دورًا جوهريًا في أعمال لاسلو كراسناهوركاي، ليس فقط كخلفية للأحداث، وإنما ككائن حي يتنفس ويتحول ويتواطأ مع المصير الإنساني. ويتجاوز المكان في نصوصه الجغرافيا ليتحول إلى مرآة للاضطراب الداخلي والروحي؛ فهو فضاء نفسي بقدر ما هو واقعي. فالقرية في رواية “سَتانْتَانْغو”، مثلًا، ليست مجرد موقع، وإنما هي كابوس اجتماعي مغلق تتكرر فيها الحركات وتتآكل فيها الأحلام، حيث “الطين لا ينشف أبدًا، والضباب لا يغادر الأفق”، كما يصف الكاتب. وتتحول المدينة الصغيرة في رواية “كآبة المقاومة” إلى كيان متوتر، مكبوت، ينتظر الانفجار، وتبدو الشوارع هناك أشبه بشرايين مصابة بالانسداد، تعكس الشلل الفكري والاجتماعي. وتتحول حتى الأماكن المغلقة مثل الحانة أو القطار إلى رموز للتيه أو الانفصال عن الواقع. أما في رواية “حرب وحرب”، فإن انتقال البطل إلى نيويورك لا يمنحه الخلاص، وإنما يكرّس غربته لأن المكان الجديد يبدو أكثر تجريدًا وبرودة. ويقول أحد شخصياته: “لا يوجد مكان حقيقي على هذه الأرض، فقط أماكن تتظاهر بأنها كذلك”. ويجعل الكاتب من المكان سؤالاً مفتوحاً عن الهوية والانعزال والانتماء، ويمنحه وظيفة سردية تعمق من الشعور بالضياع الذي يعيشه أبطاله في كل صفحة.

الطفل شاهد الصمت والمرأة الحارس الأخير

يحضر الطفل والمرأة في أعمال الكاتب ليس كرموز تقليدية للبراءة أو الحنان، وإنما ككائنات محمّلة بتوترات العالم وعزلته وسوداويته الصامتة. ولا يعيش الطفل في رواياته طفولة طبيعية بقدر ما يكون شاهداً صامتاً على انهيار المحيط وتفكك المعنى. وهو غالباً ما يُقدَّم ككائن هامشي لا أحد يصغي إليه، لكنه يرى بحدة ما لا يراه الكبار. وفي رواية “سَتانْتَانْغو”، يظهر الأطفال وهم يتجولون في القرى الموحلة في ظلال انهيار قادم لا يملكون لغة واضحة يعبرون بها، لكنهم يستشعرون الألم كما لو أنهم خُلقوا وسط أنقاض لا تفسير لها؛ تقول إحدى الشخصيات الصغيرة بصوت هامس داخل الرواية: “لا أستطيع اللعب بعد الآن، لأن كل شيء يتحطم بسرعة أكبر من الوقت الذي أحتاجه لفهمه”.

أما المرأة فهي غالباً شخصية مكسورة لكنها ليست ضعيفة. إنها متأملة ومعذبة ومرتبطة غالباً بعنف الحياة اليومية أو بانكسارات الحب والأمومة المعقدة. وفي رواية “كآبة المقاومة”، نرى السيدة إيستر وهي تحاول الدفاع عن نظام آيل للسقوط، لا لأنها تؤمن به، وإنما لأن الفوضى التي تأتي بعده أكثر قسوة؛ تقول: “لن أقاتل من أجل الحقيقة، بل من أجل أن يستمر العالم يوماً آخر فقط”.

ولا تخضع المرأة عند كراسناهوركاي لدور ثابت، بقدر ما تتحول حسب ثقل الحياة عليها؛ أحياناً هي الحارس الأخير ضد الانهيار، وأحياناً أخرى هي من ينكسر أولاً، لكن دون أن تختفي. تقول إحدى الشخصيات النسائية في “الذئب الأخير”: “كلما حاولت أن أفهم سبب الألم، أحبه أكثر، كأنه الشيء الوحيد الحقيقي”.

ويمثل الطفل والمرأة في نصوصه كيانان يشهدان ويصمتان ويتألمان دون صخب. ويجعلان من الرواية مرآة عميقة لإنسانية منتهكة تبحث عن ظل خلاص أو مجرد لحظة بقاء.

الزمن الذي يلتهم المعنى والعزلة كقدر

يشتغل الكاتب على قضايا وجودية وفكرية عميقة تتجاوز السياسي المباشر لتغوص في جوهر الإنسان المعاصر. وهو يقف في مواجهة العبث والفوضى والانهيار الأخلاقي والروحي. وتشغله فكرة الزمن الذي لا يتوقف عن التهام المعنى، والعزلة كقدر إنساني، والتأمل في الخراب الذي يرافق الحضارة في كل مراحلها. كما يحمل هم الدفاع عن الفن كوسيلة للمقاومة والتفكير، لا كترف ثقافي؛ فيقول في إحدى مقابلاته: “الفن هو الأداة الوحيدة التي ما زالت قادرة على طرح الأسئلة في عالمٍ يقتل كل سؤال قبل أن يكتمل”.

وتشكل المقاومة الفردية للتيارات الجارفة واحدة من القضايا التي يكرس لها كتابته، حيث لا يتحدث عن البطولة الصاخبة، وإنما عن صمت الذين لا يخضعون بالكامل، مثل شخصية فالوشكا في رواية (كآبة المقاومة) الذي يواجه عنف العالم بخيال مليء بالأمل رغم بساطته؛ يقول فالوشكا: “لست غبياً فقط لأنني ما زلت أؤمن بالأشياء الجميلة، حتى لو اختفت كلها”.

ويشتغل الكاتب على قضايا متعلقة بالسلطة والقمع والاغتراب العقلي، ويقف في صفّ المهمّشين وأصحاب الأسئلة الصعبة. ولا يقدّم أجوبة جاهزة، وإنما يراهن على لغة كثيفة ترصد الاضطراب الذي يعانيه الإنسان تحت أنقاض العالم المعاصر؛ يقول في رواية “الحرب والحرب”: “إن كل محاولة لفهم هذا العصر، هي في ذاتها فعل مقاومة، ولهذا أكتب”.

ولا تمثل القضايا التي يشتغل عليها الكاتب منفصلة عن قلقه الشخصي، فهي نابعة من رؤية فلسفية ترى أن الكتابة ليست سوى محاولة لمقاومة الاختفاء الكامل للمعنى.

طفولة الكاتب: الحكاية أجمل من الوجود المباشر

كانت طفولة الكاتب مليئة بالوحدة والمراقبة المبكرة للعالم المحيط به في بلدة صغيرة قرب الحدود الرومانية تدعى “جيوﻻ” حيث وُلد في 5 يناير 1954. فقد نشأ في بيت يقدِّم ثقافة القراءة والموسيقى الكلاسيكية، لكن مع القليل من الأمل الظاهر والقليل من السماء الصافية، كما وصفها بنفسه: “سماء يائسة تمامًا لاجتماعيات الريف القاسية، ولا أسئلة عن السماء… فقط كيف سأشرب بعد ذلك، ماذا سنأكل”.

وتلك البيئة شكّلت لديه إحساساً بأن الواقع ناقص، وأن الحكاية غالباً أجمل من الوجود المباشر، وكذلك أدرك أن الكتابة وسيلة لتصويب هذا النقص أو للسعي خلف إمكانية بديلة.

ويقوم مفهومه للكتابة والإبداع على فكرة أن الواقع وحده لا يكفي، وأن الحقيقة تحتاج إلى التخييل والتشويه والنسب كما يقول: “كأن الواقع له نسخة أكثر توازناً وأكثر ‘حقيقية’، فكنت أخبّـئ وأغيّر النسب في الأماكن التي شعرت فيها بأن الواقع غير متناسب”. والكتابة عنده ليست مراقبة مجردة، فهي مقاومة ورغبة في قول ما لا يُقال عن الشر، “ويجب أن يتكلم الناس”.

السياسة: حقل لليقظة الأخلاقية والتساؤل

تتمظهر السياسة عند كراسناهوركاي، فهي ليست أيديولوجيا واضحة بقدر ما هي رفض للاضطهاد والقيود التي تفرضها السلطة على الفرد والمجتمع. وهنا نراه يتحدث عن مقاومته للأنظمة الشمولية التي عاش تحت ظلال اشتراكيتها لسنوات طويلة، لا بصدامات سياسية مباشرة، وإنما بصمت الكتابة وحضور الشخصيات التي لا تستسلم للعنف الرمزي والاجتماعي.

ولا يرى الكاتب السياسة مجرد صراع قوى أو تسوية مصالح، وإنما تجربة إنسانية تصقلها معانٍ الوجود والخواء، حيث يصبح الصمت والدهشة أدوات بليغة ضد التسلط والسكون. ولا تمثل السياسة عنده حكراً على المناصب أو الشعارات، بقدر ما هي حقل لليقظة الأخلاقية والتساؤل الدائم عن العدل والحرية، وهي أيضاً المخيال الذي يُفضي إلى رؤية جديدة عندما تفشل اللغة السياسية السائدة.

وقال الكاتب في حديثه عقب الجائزة: “أُمني أن يستعيد الجميع القدرة على استخدام خيالهم، لأن من دون الخيال تكون الحياة مختلفة تماماً”. وتُقاس السياسة عنده بمدى قدرتها على إشعال الخيال، وأن تُحرِّك الضمير، وأن تجعل الفرد يرى الواقع بعيون لم تُعدّها السلطة، ولم يكن مألوفاً.

وفي مواجهة الأوقات القاتمة قال: “هذه أوقات مظلمة للغاية، ونحتاج إلى قوة أكبر بداخلنا لننجو منها”. والسياسة إذًا عنده دعوة للتماهي مع الواقع المأساوي، لكنها أيضاً عهدٌ بالتمرد الداخلي، ومقاومة التضليل، ومكاشفة القبح، لا بسلاحٍ من السلاح، وإنما بصوت الحق والخيال والتأمل.

الحرية: التحليق في التفاصيل

يرى الكاتب الحرية أنها: “الطُرق الطويلة في الجملة”، فهي تمنحه شعوراً بالديمقراطية، بأن الجملة التي تمتد لصفحات تعطي حرية أكبر في الكتابة، وتسمح بالتحليق في التفاصيل واستكشاف النفس والعالم دون اختزال.

أما الفن والسينما عنده شركاء في هذه الرؤية، فالسينما بالتعاون مع المخرج بيلا تارّ تُتيح تحويل النص الأدبي إلى مشاهد تتحدث بتركيبة الضوء والصورة، وهو لا يرى أن التحويل ينبغي أن يكون تقريباً حرفياً، وإنما أن يكون إعادة خلق للفكرة الداخلية للنص. والفن كذلك هو المكان الذي “يصرخ” فيه الكاتب الذي يرى الظلم، والفنان هو الذي يُظهِر الشر والجميل معاً، “فٌـنـان الداخل” الذي يُدافع بأن يُسمَـع، لأن ما لا يُقال غالباً أكثر إيلاماً من ما يُقال.

يُعد لاسلو كراسناهوركاي، الكاتب المجري الفذ، من أبرز الأصوات الأدبية التي واجهت عبثية العالم بعمق فلسفي ونبرة كابوسية. وتعد أعماله، وعلى رأسها “كآبة المقاومة”، تصور عالماً ينهار، تحكمه الفوضى، ويتلاشى فيه اليقين. وفي هذا السياق، تتجلى الحرية عنده لا كخلاص، وإنما كعبء: حالة من الانكشاف الكامل أمام اللامعنى، حيث يُترك الإنسان لمصيره دون سند.

ولا يرى الكاتب الحرية في التحرر من القيود السياسية فحسب، وإنما في مواجهة الفراغ الوجودي الذي تخلفه تلك الحرية. إنها حرية قاتمة، مرهقة، تتطلب شجاعة داخلية لا يمتلكها الجميع.

في أحد أقواله العميقة، يلخص هذا التوتر الوجودي بقوله: “الحرية الحقيقية ليست في الهروب من السلاسل، بل في مواجهة الحقيقة كاملة، دون وسادة من الوهم”. وبهذه الرؤية، يضع الكاتب القارئ في قلب العاصفة، ويجبره على النظر في مرآة الذات والعالم دون مواربة.

اتسمت مسيرة الكاتب الإبداعية بالحدة والعمق، وظل وفيًا للكلمة الصادقة وللعزلة التي اعتبرها رحمًا للأفكار البكر. فهو لم يبحث عن الجوائز، وإنما كانت هي من تبحث عنه، في صمته، وسرده الطويل. وكان يرى في الكتابة عبوراً نحو الحقيقة، وفي اللغة مقاومة ضد التفاهة. فقد أحب الكتب القديمة والكلاب والموسيقى البطيئة. وظل أعز ما في قلبه الإنسان الهش الباحث عن المعنى في عالم ينهار من حوله. قال مرة في لحظة مكاشفة نادرة: “كل ما أكتبه محاولة يائسة لإنقاذ شيء ما من الزوال، ربما العالم أو نفسي أو مجرد جملة واحدة جميلة لا تموت”.

المصدر: هسبريس

شاركها.