مقدمة
تُعتبر المناطق الجبلية في المغرب ركيزة أساسية للهوية الوطنية، ومخزونًا حيويًا للثروات الطبيعية والمائية، وموروثًا ثقافيًا غنيًا. رغم هذه الأهمية، عانت هذه المناطق تاريخيًا من سياسات تنموية قاصرة أدت إلى تفاقم “ثنائية الغنى في الموارد والعجز في التنمية”، مما جعلها بؤرًا للفقر والهشاشة. في هذا السياق، يبرز “مقترح الإطار التشريعي الخاص بالمناطق الجبلية بالمغرب”، الذي أعده “الائتلاف المدني من أجل الجبل”، ليكون استجابة تشريعية حاسمة لهذه الإشكالية. لا يقتصر المقترح على تقديم حلول قانونية، بل يمثل رؤية شاملة تهدف إلى إصلاح هذا الخلل التاريخي وتفعيل مبادئ النموذج التنموي الجديد، خاصةً فيما يتعلق بالعدالة المجالية [1].
تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تقديم قراءة معمقة في مضامين هذا المقترح، بدءًا من ملخص لأهم أبوابه، مرورًا بتحليل نقدي لآليات تنزيله وأسسه القانونية، وانتهاءً بتسليط الضوء على دوره كرافعة حقيقية لتحقيق التنمية المستدامة، مع التركيز على حالة تطبيقية تتمثل في واقع ساكنة آيت بوكماز.
المحور الأول: ملخص وثيقة “مقترح قانون الجبل”
تُقدم وثيقة “مقترح قانون الجبل” إطارًا تشريعيًا مفصلًا يتكون من 64 مادة موزعة على ثمانية أبواب، ويهدف إلى معالجة الإشكاليات التي تواجه المناطق الجبلية بشكل شمولي. تؤكد المذكرة التقديمية للوثيقة على أهمية المناطق الجبلية وتُشخص التناقض بين غناها الطبيعي وتخلفها التنموي، مقترحةً القانون كحل لتحقيق العدالة المجالية.
الباب الأول (المنطلقات والأهداف): يُحدد هذا الباب الأهداف الرئيسية للقانون، مثل حماية الموروث الثقافي وتدارك العجز التنموي، ويُعرف الجبل بناءً على الصعوبات المعيشية التي يسببها.
الباب الثاني (الحقوق والالتزامات): يضمن حقوق السكان في بيئة جبلية صحية وخدمات عمومية ذات جودة، ويُحدد التزامات الأفراد والجهات بعدم الإضرار بالموارد الطبيعية أو الموروث الثقافي.
الباب الثالث (مبادئ التنمية المستدامة): يُلزم الدولة والفاعلين بتبني مبادئ التنمية المستدامة، ويقترح وضع “خطة وطنية لتنمية المناطق الجبلية” تشمل تدابير مستعجلة في قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة.
الباب الرابع (حماية الموروث الثقافي): يهدف إلى حماية وتثمين التراث الثقافي غير المادي، ويقترح إحداث مؤسسات لحفظ الذاكرة.
الباب الخامس (الاستثمار والتنمية الاقتصادية): يُخضع الاستثمار لمعايير الاستدامة البيئية، ويقترح آليات لتحفيز الاقتصاد التضامني والأخضر.
الباب السادس (التعمير والسكن): يدعو إلى وضع مخططات تعمير خاصة بالجبال، تُراعي الخصوصية الجغرافية والمعمارية، وتُبسط الإجراءات الإدارية.
الباب السابع (مسؤولية الدولة والفاعلين): يُحدد مسؤولية الحكومة والجماعات الترابية والمؤسسات العمومية في تطبيق القانون.
الباب الثامن (الهيئة الوطنية): يقترح إحداث “هيئة وطنية لحماية وتنمية المناطق الجبلية” تتمتع باستقلال مالي، لتكون مسؤولة عن تتبع المؤشرات وتقييم الاستثمارات.
المحور الثاني: قراءة تحليلية نقدية لمضامين المقترح
يُشكّل مقترح “قانون الجبل” وثيقة تحليلية عميقة تستند إلى أسس نظرية وقانونية قوية، وتترجم الإرادة السياسية إلى آليات عملية.
أولاً: الأسس النظرية والقانونية
يستند المقترح إلى مرجعيات صلبة، أبرزها:
الدستور المغربي: الذي يُجسد مبادئ العدالة الاجتماعية والمجالية.
الالتزامات الدولية: ينسجم مع الأجندات العالمية للتنمية المستدامة.
النموذج التنموي الجديد: الذي يُترجم فلسفة النموذج، خاصةً فيما يتعلق بإعادة توزيع الثروات وضمان التوازن بين الجهات.
هذا التكامل يمنح المقترح شرعية قوية ويؤكد على أنه ليس مجرد مبادرة عابرة، بل هو جزء من مسار إصلاحي شامل تتبناه الدولة.
ثانياً: آليات التنزيل والحكامة المؤسسية
يُظهر المقترح وعيًا كبيرًا بضرورة توفير آليات عملية لتنزيل مضامينه على أرض الواقع، وأهمها:
إطار مؤسسي فعال: يُعد إحداث “الهيئة الوطنية” نقطة محورية في المقترح. فوجود هيئة متخصصة تتمتع باستقلالية مالية يضمن استمرارية الجهود، ويُجنب المقترح مصير النصوص القانونية التي تظل حبرًا على ورق بسبب غياب آليات المتابعة والتنفيذ.
السياسات المتكيفة: تُعتبر دعوة المقترح إلى وضع سياسات ومخططات عمرانية “متصالحة مجاليًا” مع الجبال خطوةً نوعية. هذا المبدأ يُرسخ فكرة أن التنمية يجب أن تُراعي خصوصيات كل مجال، بدلًا من تطبيق قوانين عامة قد لا تتلاءم مع طبيعة المناطق الجبلية.
توزيع المسؤوليات: يُشير المقترح بوضوح إلى أن التنمية مسؤولية مشتركة لا تقتصر على الدولة، بل تشمل جميع الفاعلين، مما يعزز مبدأ الحكامة الجيدة ويضمن التقائية الجهود.
المحور الثالث: من الواقع الميداني: حالة آيت بوكماز كنموذج تطبيقي
إن مقترح “قانون الجبل” ليس نصًا نظريًا منفصلًا عن الواقع، بل هو استجابة مباشرة للتحديات الميدانية التي تواجه سكان الجبال. ومثال “ساكنة آيت بوكماز” إقليم ازيلال يؤكد ذلك. فمشاكلهم المتعلقة بالتعمير وضعف الخدمات ليست سوى أعراض لمرض أعمق يتمثل في غياب إطار تشريعي واضح وفعال. وبالتالي، يُثبت هذا الواقع أن المقترح ضرورة حتمية لتحويل الوعود التنموية إلى واقع ملموس، وإرساء الثقة بين المواطن والإدارة.
إن مطالب ساكنة آيت بوكماز بإقليم أزيلال تُشكل تجسيدًا حيًا للإشكالات التي يُعالجها المقترح. فمطالبتهم بتبسيط رخص البناء، وتوفير المرافق الأساسية، وتحسين البنية التحتية، ليست مجرد مطالب خدمية، بل هي صدى لـ “العجز” الذي يُشير إليه المقترح. إن لجوء الساكنة إلى الاحتجاج يُبرز قصور الإدارة في الاستجابة للمطالب، ويُؤكد على أن غياب إطار تشريعي واضح وفعال يُعزّز البيروقراطية ويُعيق التنمية المحلية. تُثبت تجربة آيت بوكماز أن “قانون الجبل” ليس مجرد نص تشريعي نظري، بل هو ضرورة حتمية لتحويل الوعود إلى واقع ملموس، من خلال تقديم حلول عملية لمشاكل التنمية، بما يُنهي معاناة المواطنين ويُعزّز الثقة بين المواطن والإدارة.
خلاصة: قانون الجبل كقرار سياسي استراتيجي
يمثل “مقترح قانون الجبل” رؤية متكاملة لإعادة الاعتبار للمناطق الجبلية بالمغرب. فهو يعالج بذكاء “ثنائية الغنى والعجز” التي لازمت هذه المناطق، ويقدم إطارًا قانونيًا ومؤسسيًا متكاملًا. إن إحداث هيئة وطنية، ووضع خطة تنموية شاملة، وإشراك كافة الفاعلين، كلها آليات تُظهر وعيًا عميقًا بضرورة العمل المشترك.
إن هذا القانون ليس مجرد أداة لحماية الموارد الطبيعية والموروث الثقافي، بل هو بالأساس فرصة ذهبية لتوفير العيش الكريم لساكنة الجبال، وتحويل هذه المناطق من مصدر للفقر إلى محرك للتنمية المستدامة. إن إقراره وتفعيله سيعزز من تماسك المجتمع المغربي ويُرسي قواعد تنمية منصفة ومتوازنة، مما يمهد الطريق نحو تحقيق الأهداف الكبرى للنموذج التنموي الجديد.
يُمثّل “مقترح قانون الجبل” وثيقة مفصلية للنقاش حول التنمية بالمغرب. فهو لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدّم إطارًا تشريعيًا ومؤسسيًا يُمكنه أن يكون رافعة حقيقية لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة المجالية. إن إنجاح هذا المقترح يتطلب إرادة سياسية حاسمة تُدرك أن إنصاف المناطق الجبلية هو قرار استراتيجي وطني، وأن تحقيق أهداف النموذج التنموي الجديد مرهون بتصالح المغرب مع مجاله الجبلي كعمق ثقافي واقتصادي وحيوي.
مرجع
[1] الائتلاف المدني من أجل الجبل. (2025). مقترح قانون الجبل (ملتمس في مجال التشريع رقم 006113). مُقدّم إلى رئيس مجلس النواب، بتاريخ 10 يوليوز 2025.
المصدر: العمق المغربي