تزامن الخطاب الملكي المتعلق بافتتاح الدورة البرلمانية الخريفية مع السنة الأخيرة للولاية التشريعية والحكومية؛ وبالتالي تزامن مع فريق أغلبي منهك ومرتبك، خصوصا أن المعروف عن الديمقراطيات الحاكمة أنها ديمقراطية تنهك بعد مرور ثلاث سنوات من تحملها المسؤولية الحكومية كما أكد على ذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران؛ مما يثبت الاختلاف بين الزمن المؤسساتي المحدد في خمس سنوات والزمن الديمقراطي الذي يتميز بالعمر القصير والمحدد في ثلاث سنوات من التدبير الحكومي.

الإنهاك الديمقراطي الذي تشكو منه الديمقراطيات الحاكمة يؤكد الحاجة بعد ثلاث سنوات من المسؤولية الحكومية إلى تغيير قطع الغيار الوزارية بالرؤوس الثقيلة والنوعية إن وجدت حتى نعمل على بث هواء وأوكسجين ديمقراطي جديد في الحياة السياسية الوطنية؛ ولكن رئيس الحكومة ومعه الأغلبية الحكومية عملا على اختيار طريق إكمال الولاية الحكومية بالفريق نفسه والوجوه ذاتها بكل ما يحمله ذلك من رسائل سلبية للمجتمع والمواطن.

وتزامن خطاب افتتاح الدورة التشريعية الخريفية مع نهاية شهر شتنبر وبداية شهر أكتوبر؛ وهي مرحلة تتميز بكونها مرحلة الدخول السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويطلق عليها بعض السياسيين كذلك لقب الفصل الخامس (الخريف ـ الشتاء الربيع الصيف).. وهو فصل يتميز بنهاية عطلة الصيف التي من المفروض أن تكنس معها كل المشاكل القديمة، خصوصا أنها تتزامن مع بداية الدخول الدراسي بكل ما يحمله من رمزية متفائلة ببداية جديدة، حيث من المفروض أن يهب هواء منعش على كل القطاعات، هواء يحمل معه أفكار جديدة ومواضيع جديدة ويبشر بأيام هادئة قادمة؛ ولكن قدوم الفصل الخامس بالمغرب هذه السنة حمل معه رياح الغضب ورياح الاحتجاج ورياح المطالب الاجتماعية ورياح الأزمة السياسية والاجتماعية. هذا الوضع جعل الكل يوجه أنظاره إلى الخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية الخريفية من أجل استكشاف الرد السياسي على الأزمة والحل الذي تراه المؤسسة الملكية.

أولا) الخطاب الملكي والانحياز إلى الوثيقة الدستورية ونتائج اليوم الانتخابي والبرنامج الحكومي مع الانفتاح على مطالب الشارع

من المعروف أن الأنظمة التي تتبنى الديمقراطية التمثيلية تعمل على شرعنة المطالب المعبر عنها من خلال اليوم الانتخابي / الانتخابات؛ وهو اليوم الذي يتم فيه التفويض الشعبي لممثلي الأمة. لهذا، فإن اليوم الانتخابي، كما يؤكد السوسيولوجي بيير روزنفلون، يؤدي وظيفتين: الوظيفة الأولى هي اختيار الحاكمين، تعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب المتصدر ويعين الحكومة باقتراح من رئيسها. أما الوظيفة الثانية للانتخابات فتتمثل في نقل المطالب الشعبية للأمة إلى مربع التنفيذ، من خلال تأكيد الدستور على أن الحكومة تعمل على تقديم البرنامج الحكومي أمام مجلسي البرلمان مباشرة بعد تعيينها.

من خلال الخطاب الملكي الأخير، اتضح للمتتبع أن الملك عمل على التأكيد على انحيازه إلى الوثيقة الدستورية وإلى استمرارية الحياة الوطنية. ومن جهة أخرى وعلى اعتبار أن الملك حسب الوثيقة الدستورية يعتبر رمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها والحكم الأسمى بين مؤسساتها، يسهر على احترام الدستور وحسن سير المؤسسات الدستورية وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي. لهذا، فإن الوثيقة الدستورية كانت تدفع في اتجاه اتخاذ القرار المنحاز إلى المؤسسات المنبثقة عن اليوم الانتخابي. هذا الانحياز يجد تفسيره كذلك في كون الميزة الأساسية للانتخابات هي أنها ترسخ الشعب المتساوي المعزول عن خصوصياته الفردية والفئوية، من خلال الميزة العامة للشخص والمواطن، كما يؤكد الدستوراني الفرنسي ايمانويل جوزيف سييز.

والمعروف أن الشعب المتساوي يترسخ أكثر في اليوم الانتخابي من خلال عملية دستورية مهمة تتعلق بحساب الأصوات المحصل عليها للمواطنين المتساوين.

المظاهرات والاحتجاجات في غالبيتها هي تعبير عن مطالب فئوية واجتماعية و(رغم أن الصحة والتعليم والشغل هي مطالب تميز الشعب الكلي وليس الشعب الفئوي)؛ بالتالي هي تعبير عن جزء من الشعب الكلي وجزء من الأمة.

من خلال المظاهرات والاحتجاجات يتم التعبير عن المطالب العامة أو الفئوية للفئات المنظمة والقادرة على إسماع صوتها والقادرة على التحرك والقادرة على التنظيم والفعل؛ وبالتالي هي تعبير عن الصوت القوي وليس الصوت الجامع.

الدستوراني سييز سيؤكد أنه من خلال الاستماع إلى المطالب الفئوية ننتقل من عد الأصوات المتساوية من خلال الحساب الكمي العددي للشعب والأمة إلى وزن الأصوات من خلال أصوات الفئات المنظمة والقوية.

الفئات الشعبية والفقيرة وعامة الناس تجد نفسها أكثر من خلال العملية الانتخابية المعتمدة على عد أصوات الناس المتساوين؛ بينما في الاحتجاجات والمظاهرات حيث تعتمد العملية على وزن الأصوات، تجد الفئات القوية والغنية وجزءا من الطبقة المتوسطة والنخب والأقليات واللوبيات نفسها أكثر من خلال العمليات التي تعتمد على وزن الأصوات ودون الاعتماد على العد والمقياس الكمي التي تميز الديمقراطيات الأغلبية.

المؤسسة الملكية من خلال خطاب افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية أرادت ان ترسخ انحيازها الأولي إلى الأمة والشعب الكلي المتساوي من خلال عملية العد أولا؛ وبالتالي الانحياز إلى البرنامج الحكومي المعبر عنه في اليوم الانتخابي من خلال تصويت الأغلبية التمثيلية، مع الانفتاح على صوت الشارع المعبر عنه من خلال التظاهرات والتحركات الشعبية وعملية وزن الأصوات، من خلال مربع تعديل البرنامج الحكومي وتحيينه وتغيير أولياته… ولكن الأولوية والأهمية تبقى للشعب الانتخابي وللبرنامج المصادق عليه من لدن ممثلي الشعب الانتخابي.

ثانيا) الخطاب الملكي أثبت انحياز المؤسسة الملكية إلى مربع استمرارية الحياة الوطنية نظرا للكلفة السياسية والاقتصادية والمالية الباهظة للمطالب المتعلقة بإقالة الحكومة

المشكل في الاحتجاجات التي تعرفها البلدان النامية والصاعدة هو أن الشارع يريد أن يحل محل المؤسسات الدستورية المنتخبة؛ بينما الشارع مطلوب منه أن يعبر عن مطالب تخص سقف تعديل المطالب وتغيير الأولويات التي سبق أن عبر عنها اليوم الانتخابي؛ لأن مطالب اليوم الاحتجاجي لا يمكن أن ترقى إلى مستوى الحلول محل المطالب المعبر عنها من خلال اليوم الانتخابي. كما أن مطالب اليوم الاحتجاجي لا يمكن أن تصل إلى مستوى المطالبة بتغيير الحاكمين من خلال اليوم الاحتجاجي؛ لأن هذا يعتبر تمردا على سقف ثقافة الديمقراطية التمثيلية المتعارف عليها عالميا ويعتبر كذلك شرعنة للفوضى.

ربط تعيين الحاكمين من خلال اليوم الانتخابي مرتبط كذلك بالكلفة السياسية والاقتصادية والمالية الباهظة لتغيير الحاكمين من خارج اليوم الانتخابي لأنه رسالة جد سلبية للآخر.

تغيير الحاكمين من خارج اليوم الانتخابي هو رسالة ضعف ورسالة عجز يتلقفها الآخر بسرعة قياسية، رسالة الضعف والعجز تؤثر بشكل كبير على الالتزامات السياسية والاقتصادية والمالية للدولة أمام المؤسسات والأسواق والمتعاملين، وتؤثر كذلك على مناخ الاقتصاد والأعمال والمال. لهذا، يستبعد الرؤساء الحكيمين والعقلاء اللجوء إلى هذه الإجراءات الصعبة والمكلفة.

الملك، من خلال الخطاب المتعلق بافتتاح الدورة البرلمانية الخريفية، كان يستحضر التجربة السلبية التي قام بها الرئيس الفرنسي في يونيو 2024 من خلال حل البرلمان الفرنسي، والثمن السياسي والاقتصادي والمالي الباهظ الذي ما زالت تقدمه فرنسا (دولة وشعب) إلى اليوم، حيث إن حل البرلمان جعل الدولة الفرنسية كالسيارة المعطلة التي تنتظر في المرأب عملية الإصلاح.

حل البرلمان الفرنسي أدخل الدولة الفرنسية إلى مربع الفوضى والضبابية بفصولها المتسلسلة والمستمرة، حيث إن حل البرلمان من لدن الرئيس تبعه قيام البرلمان المنتخب بإسقاط الحكومة ويحاول اليوم إسقاط رئيس الدولة، وكما يقول المثل العربي وما زال الحبل على الجرار.

وعلى اعتبار أن الأزمات السياسية المرتبطة باستمرارية الدولة تدفع الأسر والمقاولات والمستثمرين إلى اختيار ما يطلق عليه استراتيجية المتفرج، هذه الاستراتيجية كلفتها باهظة على الاقتصاد الوطني وعلى المواطن.

وحيث إن الأحداث الاقتصادية بخلاف الأحداث السياسية هي أحداث كمية، فإن الاقتصاديين الفرنسيين قدموا للطبقة السياسية الفرنسية المتهورة والمغامرة الكلفة المالية الباهظة لقراراتهم الانتحارية والتي قدرت بخسائر تجاوزت الاثني عشر مليار أورو، هذا دون احتساب الفاتورة الاقتصادية لإسقاط الحكومة. وأكد مجموعة من رجال الأعمال الفرنسيين أن الثمن الاقتصادي للفوضى السياسية كان من نتائجه كذلك أن كل مشاريع الانتقال الطاقي في فرنسا عرفت تجميدا معينا، وتراجع مناخ الاستثمار في فرنسا؛ مما يمهد لهروب رؤوس الأموال والاستثمارات.

المؤسسة الملكية، من خلال خطاب افتتاح الدورة التشريعية الخريفية، اختارت طريق الإصلاحات الهادئة من خلال الابتعاد عن القرارات التي تعطل المسيرة وتدخل البلد في مرحلة الضبابية والمجهول السياسي والاقتصادي واختارت الحلول التي تضمن البقاء في زمن المنحى الصاعد بدل الحلول التي تدخل البلد في المنحى النازل؛ لأنها كانت مقتنعة بأن الاقتصاد العالمي لا ينتظر أحد ولا يعترف بمحطات الراحة لأنه اقتصاد التنافس واقتصاد يفتح الطريق لمن يعرف كيف يصنع فرص نجاحه ويتلقفها بسرعة.

لهذا، لم تذهب المؤسسة الملكية في اتجاه خيار إنهاء مهام حكومة عزيز أخنوش. كما أن المؤسسة الملكية كانت تعرف أن البلد اليوم تنتظره مواعيد مؤسساتية مهمة مرتبطة باستمرارية الحياة الوطنية من خلال اجتماع المجلس الوزاري للتداول في التوجهات العامة للقانون المالي. وبعد ذلك، من المفروض على الحكومة وضع مشروع قانون المالية الذي يعتبر الضامن لاستمرارية الحياة الوطنية في شقها المالي حسب منطوق الفصل الخامس والسبعين من الدستور، لدى البرلمان قبل العشرين من شهر أكتوبر لضمان استمرارية الحياة الوطنية؛ مما يثبت الكلفة الباهظة للمس باستمرارية الدولة.

المؤسسة الملكية كانت تعرف أن أي شلل لإحدى المؤسسات من خارج المواعيد الانتخابية التجديدية يؤدى البلد ثمنه باهظا على المستوى السياسي والمستوى الاقتصادي والمستوى المالي. لهذا وجدت المؤسسة الملكية نفسها أمام خيار وطني وحيد يتمثل في الانتصار لصالح استمرارية الحياة الوطنية، من خلال استمرارية المؤسسات السياسية المنتخبة ديمقراطيا في أفق العودة قريبا إلى الشعب الشرعي والانتخابي من أجل محاكمتها ومعاقبتها إن أراد الشعب الشرعي والشعب الانتخابي ذلك.

ثالثا) المؤسسة الملكية رغم عدم اقالتها لحكومة أخنوش فإنها تركت الخيار المتعلق بإمكانية تطبيق “استراتيجية التأديب السياسي” مفتوحا

المؤسسة الملكية تعرف أن الحكومة في المغرب تستفيد من التعيين من خلال ظهير، وتستفيد كذلك من التنصيب البرلماني؛ وهو ما يطلق عليه البرلمانية الإيجابية، مما يجعل رؤساء الحكومات في المغرب يستفيدون من رأسمال سياسي مهم.

ولكن تعيين الحكومة من خلال ظهير ملكي وترؤس الملك للمجلس الوزاري يجعل رئيس الحكومة والحكومة تحت السلطة الرئاسية للمؤسسة الملكية، هذه السلطة الرئاسية تتيح لمن يمتلكها ممارسة سلطة توجد بين سلطة التعيين وسلطة الإقالة وهي سلطة التأديب السياسي.

مفهوم سلطة التأديب السياسي، كما نظر لها الكاتب الفرنسي ميشيل فوكو من خلال ما سماه بالجهاز التأديبي باعتباره نظام سلطة يقوم على المراقبة والإشراف والتحكم في سلوك الأفراد من خلال عقوبات صغيرة ومستمرة تهدف إلى جعل الأفراد منضبطين ويتماشون مع المعايير الاجتماعية والمؤسساتية من خلال التحكم الدقيق في التفاصيل السياسية، وتجعل السلطة الرئاسية تتدخل من أجل دفع رئيس الحكومة إلى سرعة الفعل وسرعة الإنجاز وتغيير العقلية والعمل على التواصل الجيد من خلال وضع رئيس الحكومة تحت المراقبة المستمرة لرئيس الدولة.

كما أن منظومة التأديب السياسي تتميز بكونها تركز على ممارسة وفعل وسلوك رئيس الحكومة من خلال المراقبة المستمرة والتأطير المتجدد، الذي قد يصل في بعض الحالات إلى جعل رئيس الحكومة في موقع ثانوي.

وفي هذا السياق، فإن نزع الإشراف السياسي على الانتخابات من يد رئيس الحكومة كان في حقيقة الأمر يندرج ضمن مربع تأديب رئيس الحكومة من خلال رسائل سياسية ضمنية بين صاحب القرار وبين المعني بالقرار من أجل الانضباط وتحسين التصرف والانحياز من جديد إلى مربع المصلحة العامة.

ووجب الاعتراف بأن المؤسسة الملكية تفترض أن الأغلبية السياسية المشكلة للحكومة قد استوعبت الرسالة القوية التي وجهها إليها الشارع من أجل فتح صفحة جديدة فيما تبقى من عمر ولايتها، وإلا فإن المؤسسة الملكية ستجد نفسها مضطرة إلى استعمال صلاحياتها الدستورية من خلال استعمال سلطة التأديب السياسي للحكومة فيما تبقى من عمرها الدستوري.

اختيار المؤسسة الملكية التعامل مع حكومة أخنوش من داخل المساحة الفاصلة بين مربع التعيين وبين مربع الإقالة من خلال التقويم والإصلاح والتوجيه وتحديد مربع أولويات الفعل هو اختيار ينتصر للمصلحة الوطنية العليا ويعبر عن حكمة وإبداع في فن الحكم، ويندرج ضمن القرارات الفاعلة في اللحظات الصعبة، ويندرج ضمن القرارات التي تمكن من الوصول إلى الهدف الذي رفعه المتظاهرون بطرق أكثر إيجابية وأقل كلفة على الدولة وعلى الاقتصاد الوطني وعلى المالية العامة وعلى المواطن.

رابعا) إصرار المؤسسة الملكية على الخيارات المرتبطة بالاستراتيجي والاجتماعي

تأكيد الملك في خطابه على الاستمرار في المشاريع الاستراتيجية التي تعود بالنفع على الأجيال الوطنية الحالية، ومنها “جيل زد” واللأجيال المولودة حديثا أو الأجيال التي لم تولد بعد، يؤكد اقتناع الملكية التام بدور المشاريع الاستراتيجية في بناء مستقبل الدولة المغربية.

يحكي المؤرخ اليوناني هيرودوت أن الفراعنة الذين شيدوا الأهرامات كانوا يستهدفون خلق فرص عمل لشعب يزداد عدده يوما بعد يوم من خلال المشاريع الكبرى، ولم يكن غرضهم فقط التوفر على هندسيات رائعة لدفن الموتى من الأسرة المالكة.

ويحكى هيرودوت أن وقع تلك الاستثمارات كان كبيرا على المالية العمومية بمفهومها القديم، ووصل الأمر بالفراعنة إلى مرحلة العجز عن الأداء؛ ولكن هيرودوت لم يرَ الدور الكبير التي تلعبه هذه الأهرامات اليوم في منح مصر موقعا سياحيا رياديا على المستوى الإفريقي من خلال مداخيل تصل إلى ما يفوق الأربعة عشر مليار دولار سنويا (إحصائيات سنة 2024).

الاقتصادي كينز سيروج فكرته الاقتصادية أنه من المستحب وجود أناس يعملون، ولو كان هذا العمل يتمثل في حفر الحفر ومن ثم ردمها، على وجود أناس لا تعمل وعاطلة؛ لأن العمل يخلق الطلب.

المؤسسة الملكية من خلال المشاريع الاستراتيجية كانت تعمل على تصحيح مقولة كينز، من خلال ترسيخ الاعتماد على خلق العمل باعتباره إجراء اقتصاديا جيدا ومفيدا؛ ولكن بشرط أن يكون هناك من يحفر الحفر وهناك من يزرع البذور، وبعد ذلك يأتي من يردم الحفر حتى يستطيع العمل التفوق في تحويل الأرض القاحلة إلى أرض خصبة.

سليمان ايزرا، الباحث في جامعة برنستون الأمريكية، سيؤكد أن نجاح النموذج التنموي الياباني اعتمد على اقتناع النخب القيادية اليابانية بدور الاستثمار في البنية التحتية من خلال بناء الطرق السيارة والموانئ والمطارات وبناء الجسور؛ بل ولاحظ المهتمون بالتجربة اليابانية اهتمامها ببناء الجسور التي لا توصل لأية جهة، مما يبرز هوس التجربة اليابانية بالاستثمار في البنية التحتية ولم تنتقل التجربة اليابانية للاستثمار في اقتصاد الطاقة والتكوين والبحث والابتكار إلا متأخرة بعد الانتهاء من الاستثمار في البنية التحتية. لهذا، كانت المؤسسة الملكية حاسمة في الخيار المرتبط بالاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الاستراتيجية لإيمانها بالدور الذي تلعبه هذه الاستثمارات في بناء مغرب المستقبل.

خامسا) تأكيد الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الخريفية على تغيير العقليات وطرق العمل

الخطاب الملكي الأخير من خلال دعوته إلى تغيير ملموس في العقليات وفي طرق العمل كان يريد دفع السياسيين والمدبرين والنخب المغربية إلى محاولة تغيير الحقائب الفكرية والحقائب التدبيرية.

وكانت المؤسسة الملكية تنبه إلى أن إصلاح التعليم وإصلاح الصحة لا يمكن أن يتم من خلال المقاربات التدبيرية التي أكل عليها الدهر وشرب والتي لا تملك إلا وصفة واحدة أن كل إصلاح وكل تغيير ينظر إليه من خلال الشعار الثابت والأزلي المزيد والمزيد من الإمكانات والموارد، وبالتالي المزيد من الاعتمادات وأنظمة جديدة للعاملين بالتعليم والصحة والمزيد من خلق الوظائف.

الخطاب الملكي الأخير عمل على دعوة الجميع إلى مقاربة تدبيرية جديدة مستمدة من الدستور المالي للمملكة، والذي يرسخ مقاربة تدبيرية تعتمد على الفعالية والتي لا تركز على سقف الاعتمادات المخصصة لوزارة أو مؤسسة؛ بل تركز على قدرة الوسائل المادية والبشرية المعتمدة على بلوغ الأهداف المتوخاة والتي ينتظرها المواطن دافع الضرائب والمواطن المرتفق؛ وهي المقاربة نفسها التي رفعها المحتجون على تردي الخدمات الصحية في بعض مدن المملكة من خلال الدعوة إلى مقاربات تدبيرية جديدة وضرورة حضور العاملين والموظفين.. وبالتالي نبهت إلى أن الأمر اليوم مرتبط بنوعية الحكامة ونوعية الاستثمارات العمومية، ومن ثمّ فإن المشكل الأساسي مرتبط بفعالية الخدمات التي تقدمها الصحة والتعليم للمواطنين، ودعوة البرلمان والحكومة إلى تبني الإصلاحات التي تعمل على تنزيل التدبير المعتمد على الفعالية والنتائج.

الخلاصة

يحمل يوم الجمعة رمزية دينية وكذلك رمزية دستورية بالمغرب، من خلال تنصيص الفصل الخامس والستين من الدستور على “يرأس الملك افتتاح الدورة الأولى، التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر”؛ مما يجعل من يوم الجمعة يوما دستوريا بامتياز مرتبطا بافتتاح الدورة البرلمانية الأولى، ومرتبطا كذلك بالخطاب الذي يلقيه الملك بهذه المناسبة. ومن جهة أخرى يحمل هذا اليوم ميزة خاصة في الذاكرة الشعبية والتقاليد والأعراف الغذائية، حيث إنه يوم الأكلة الشعبية الأولى بامتياز بالمغرب، والذي يعرف بـ”يوم الكسكس الأسبوعي”.

والمعروف عن الكسكس أنه أكلة جماعية؛ وبالتالي يحمل رمزية سياسية مهمة مرتبطة بالدعوة إلى الاهتمام بالأكلة الشعبية الجماعية التي تعمل على تعزيز ثقافة الجماعي والمشترك ودوره الأساسي في تعزيز التماسك والوحدة الوطنية والعيش المشترك، بدل الرمزية السياسية التي تحملها الأطباق الغذائية الفردية بما تحمله من فردية وفئوية. لهذا، حمل الخطاب الملكي الأخير رمزية كبيرة في الانتصار للقيم المشتركة؛ من خلال الدعوة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية، عبر تعبئة جميع الطاقات.

باحث في العلوم السياسية والمالية العامة

المصدر: هسبريس

شاركها.