أحمد عثمان جبريل

لا يُقاس سقوط رجُل دولة بمجرد زلة لسان أو بلحظة عاطفية عابرة؛ بل يقاس بقدْر الفجوة بين ما يُفترض أن تمثّله مكانة المسؤول وبين ما تُسجّله أفعاله من خيبات واهتزازات رمزية. كامل إدريس لم يأتِ من الشارع؛ لم يأتِ محمّلاً بشعارات عفوية أو بصفاقات حشود.. جاء من مؤسسات أممية ودولية تعلّم فيها لغة البروتوكول، وفهم فيها معنى المقام، وحمل على كاهله ثقافة لا تسمح بالانزلاق في مهرجانات الولاء. لذا فإن هتافه “يعيش أسياس” لا يُقرأ كزلّة لحظة، بل كانهيار لمعنى الدولة في لحظة هي أحوج ما تكون إلى وقارٍ وصرامة.

«الكلمة بمقدار ما تُضيء تُحاكم؛ ومن يطلقها دون حساب يترك أثرها لا يُمحى.»
نجيب محفوظ

1
حين يخرج رجل من رحم المؤسسات الدولية ليُمثّل أمة مكلومة، لا يُنتظر منه أن يردّد الهتافات، بل أن يصون المعاني.

كامل إدريس، الذي جاء ومن دهاليز الأمم المتحدة، ليس رجلاً جديد العهد بالبروتوكول. يعرف ما يعنيه أن تكون رئيس وزراء، وما الذي تُمليه هيبة المنصب من اتزان وتوازن. لذا، فإن مشهده وهو يهتف باسم أسياس أفورقي، ليس خطأ بروتوكوليًا، بل سقوطٌ مفاهيمي لرجلٍ كان يُفترض أن يُجسّد مقام الدولة، لا أن يجرّدها من رمزها.

2
لا يمكن النظر إلى هذا الفعل على أنه زلّة عابرة، في وقتٍ تشهد فيه البلاد واحدة من أعقد مراحلها السياسية والإنسانية.. السودان يعيش لحظة عطش إلى من يُمثّله بكرامة، لا إلى من ينزلق في مهرجانات الولاء المجاني.. الهتاف باسم طاغية يختزل أكثر من فعل شخصي؛ هو إهانة لشعبٍ خَبِر معنى الثورة، ودفع دماءً غزيرة ليقف حُرًّا، لا تابعًا.

3
ما يجعل المشهد أكثر إيلامًا أن هذا ليس أول انزلاق يُسجَّل في فترة وجيزة من تولّي إدريس مهامه، بل واحد ضمن سلسلة أخطاء سياسية وبروتكولية وإعلامية متلاحقة، تُظهر أن الرجل رغم مؤهلاته الدولية إما أنه محاط بمن يضلّلونه، أو أنه فقد القدرة على التمييز بين مقتضيات رجل الدولة، ومغريات الطلة الاحتفالية.

4
ولا يمكن الحديث عن هذه السقطات دون التطرّق إلى طاقم المستشارين. فهؤلاء ليسوا مجرد موظفين في الظل، بل رُكّاب السفينة الحقيقيين. فإما أنهم يفتقرون للرؤية، أو أنهم متواطئون في تقديم صورة هشّة لرئيس الوزراء. في كلتا الحالتين، المسؤولية الأخلاقية والإدارية تفرض إعادة النظر في هذا الفريق، لأن الفشل لم يعد يُغطّيه الصمت.

5
وتحت هذه الانزلاقات، يطفو سؤال مقلق بدأ يهمس به الشارع: هل كامل إدريس بكامل لياقته الذهنية؟ هل نُواجه فقط سوء تقدير، أم أننا أمام قصورٍ وظيفي ينعكس على صورة الدولة؟ لسنا هنا في مقام التشخيص، لكن من حقّ الدولة، والشعب، والمؤسسة أن تتحرّى عن سلامة ممثلها، لا حرصًا عليه وحده، بل على من يُمثّلهم.

6
الهتاف لأسياس لم يكن مجرّد انفعال؛ بل رسالة خاطئة. لأمة تُصارع للبقاء، ليس من المقبول أن يُرسَل إليها هذا النوع من الرموز رجلٌ لا يُنتخب، ولا يتغيّر، ولا يسمع غير نفسه. ومن يهتف له، يفتح بابًا واسعًا للشك في مدى إدراكه لقيمة التفويض الشعبي وكرامة الشعب الذي يُمثّله.

7
البرهان، الذي أسند هذا المنصب، يتحمّل بدوره مسؤولية ما يحدث. إن لم يتدخل الآن لإصلاح هذا المسار، فسيدفع ثمن الصمت على انحدارٍ علني، يوشك أن يبدّد ما تبقى من صورة الدولة. البداية يجب أن تكون بإقالة المستشارين الذين سمحوا بهذا الانهيار، أو لم يوقفوه. فصورة القيادة تُصاغ من ظلال المحيطين بها.

8
ما نطلبه ليس أكثر من الحد الأدنى: رجل مسؤول، متّزن، لا يُحرج الدولة، ولا يُنقص من قيمتها، ولا يُراكم الخيبات. إن لم يكن كامل إدريس قادرًا على أن يكون هذا الرجل، فإن الأدب الوطني يقتضي أن يرحل. لا إهانة في الانسحاب حين تعجز عن حمل الاسم. الإهانة الحقيقية هي أن يبقى ممثل الدولة صدىً، لا صوتًا.

9
بقى أن نقول:” لسنا شعبًا بلا ذاكرة. ولسنا ممن يُلدغون مرتين دون أن يستفيقوا.. من يعبث بكرامة هذا الشعب الأبي سيجد نفسه خارج سياقه، مهما علا صوته.. الكراسي لا تُبقي على أحد؛ وحده الوفاء لمعنى الشعب و الدولة هو ما يُخلّد القادة.. وعلى من اختار الهتاف، أن يدرك أنه لم يُصفّق وحده .. بل صفع قلوبًا تعبت، وأرواحًا لم تعد تقوى على المزيد”.
إنا لله ياخ.. الله غالب.

المصدر: صحيفة التغيير

شاركها.