»الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوّة« جورج اورويل

ما نعيشه منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ حتى هذه اللحظة قلب معايير كل ما نفهمه ونعرفه من مفاهيم. ولعل أبرزها مفهوم السلام ذاته. لو تخيلنا جزءاً جديداً لرواية جورج اورويل ١٩٨٤، لما استطاع كاتب أن يبتكر مشاهد أكثر سريالية مما نعيشه اليوم.
ففي عالم أورويل، لا يقوم الاستبداد على العنف وحده، بل على تحوير اللغة وقلب المعاني: يصبح الخير شرّاً، والحرب سلاماً، والعبودية حرية. تُفرَّغ الكلمات من مضامينها لتصبح أدوات للسيطرة، فيقرّ “الأخ الكبير” ما هو الصواب والخطأ، ويُعاد تعريف الأخلاق وفق منطق القوة. وهنا تتجلّى آلية “التفكير المزدوج” التي وصفها أورويل؛ إذ يُصبح التناقض قاعدة الوعي، فيؤمن المرء بالشيء ونقيضه معاً، ويُصاغ الكذب حتى يغدو حقيقةً قابلة للتصديق.
إنّ منطق الهيمنة المعاصرة لا يقوم على استعمال القوّة فحسب، بل على شرعنتها؛ إذ يتحوّل حقّ القوّة إلى المرجعية الوحيدة، وتُهمَّش قوّة الحقّبوصفها مجرّد خطاب أخلاقي منزوع الفاعلية.

على مدى عامين من حربٍ غاشمةٍ اكتملت حلقاتها بإبادةٍ شاملة، لم تكتفِ بحصد الأرواح، بل سعت إلى محو الوجود ذاته. حرب لم تبق حجراً في مكانه، ولا إنساناَ على حاله.
في زمنٍ يُعاد فيه تعريف الشرّ والخير، تُؤطَّر الإبادة بلغةٍ مفهومية: «دفاعٌ عن النفس» أو «حمايةٌ للوجود». في هذا السياق تُدرَج الإنسانية في سُلَّمٍ من الدرجات، تُقاس فيها قيمة الإنسان لا بصفته كائنًا ذا كرامة، بل بموقعه من معادلة القوّة. ويُشوَّه الإنسان إلى حدّ أن يُوصَف بأنه «حيوانٌ يستباح ذبحه».
ومع توظيف أنظمة الذكاء الاصطناعي وتحويل القتل إلى منطقٍ خوارزميّ، تتحوّل الإبادة إلى فعلٍ محايدٍ ظاهريّاً، يُنفَّذ ببرودٍ تقنيّ ويُدار ببرامج مبرمجة على الدقّة والفعاليّة. غير أنّ أسماء هذه البرمجيات تكشف عن منطقٍ أعمق من التقنية ذاتها: «لافندر» و«غوسبل» ليستا تسميتين عشوائيّتين، بل امتدادٌ لخطابٍ يربط القتل بمفاهيم الطهارة والخلاص. فـ«لافندر» تُحيل إلى الصفاء والسكينة، و«غوسبل» إلى البشارة والسلام، وهما بذلك تُجسّدان تصوّراً حديثاً لفكرة “النقاء” التي تحوّلت، في سياقاتٍ راديكاليّةٍ عدّة، إلى أداة تبريرٍ الإبادة باسم التفوّق والاصطفاء. وتلتقي العقيدة بالتقنية في إعادة إنتاج نزعة التفوّق التي تُحوِّل الفناء إلى خلاص، والقتل إلى واجبٍ أخلاقيّ، لتعيد صياغة خطاب الطهارة بمفرداتٍ خوارزميّةٍ جديدة، وتُقدَّم الإبادة بوصفها نظاماً عقلانيّاً نقياً ومشروعاً للخلاص.
هكذا يتحقق ما تنبّأ به عالم أورويل: حين تُفرَّغ الكلمات من معانيها، تُصبح اللغة سلاحًا للطغيان لا أداةً للحقيقة؛ فـ«السلام» يُنطق به لتبرير الحرب، و«الأمن» يُستدعى لتغطية الإبادة، وتُمارَس الحرية بمنطق العبودية الجديدة — عبوديةٍ تُنفَّذ بالذكاء الاصطناعي وتُبرَّر بالخطاب الإنساني ذاته الذي تمّ إفراغه من إنسانيته.
هكذا يبدو واقع اليوم: بالرغم من سرياليته وسوداويته، يبدو هذا المشهد أفضل ما أمكن وسط مأساة لا تبدو لها نهاية. تلك القوى الغاشمة لم تعد تكتفي بالفعل، بل شرعنت وجودها واستمراريتها عبر استمرار الحرب. هي كمصّاص دماء يعتاش على تدفق الضحايا ليبقى.
إعلان ترامب عن التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب قد يُقرأ، في هذا السياق، كأقصى ما يمكن إنجازه الآن — حتى لو كان الثمن واضحاً، وإنْ كان الكسر والخضوع أحد أركانه، والانهيار والهزيمة جزءاً بديهياً من سيناريو الوجود الحالي.
والسؤال الذي يفرض نفسه هو: هل في الإمكان إجبار هذا العدوان على الارتداد والانسحاب؟ أم أن ثمن القبول بما ارتكبوه وما صاغوه بأقلامهم سيترك فينا جرحاً لا يندمل؟ وما الذي تعنيه هذه الاحتمالات لنا، إنسانياً وسياسياً وأخلاقياً؟
إنّ قدرة ترامب على فرض هذا «السلام» تبدو، في هذا السياق، وكأنها إنجازٌ كونيّ؛ فقد استطاع، ولو لوهلةٍ عابرة، أن يُخضع المارد المتغوّل، أن يُرغمه على التراجع خطوةً إلى الوراء. لكنّ هذا التراجع لا يحمل بالضرورة معنى الانتصار، بل يكشف هشاشة العالم بأسره أمام منطق القوّة، حيث يغدو أبسط أشكال الهدوء انتصاراً خارقاً في زمنٍ باتت فيه الحرب هي القاعدة، والسلامُ استثناءً مؤقّتاً.
وبينما يسابق ترامب الزمن ليُسجِّل في تاريخه “إنجازًا” يُرشّحه — بترشيحه الذاتي — لجائزة نوبل للسلام، تتكشّف مأساة العالم الحديث: أن يصبح السلام مجرّد جائزةٍ تُمنَح، لا واقعًا يُصان، وأن يتحوّل الضحايا إلى خلفيّةٍ صامتةٍ لصورةٍ تذكاريةٍ تُمنح للفائزين.
وكأنّ العالم لم يشهد هذه الحرب، أو كأنّ الدماء المسفوكة كانت مجرّد خبرٍ عابر في نشرات المساء. فقد أدّت إدارة ترامب دوراً محورياً في المنظومة التي سهّلت الإبادة، فيما كان نتنياهو ومن حوله أحد وجوهها الرئيسية.
فالمستفيدون الحقيقيون في هذه الحرب لم يكونوا الساسة ولا القادة فحسب، بل مصانعُ الأسلحة والشركاتُ العابرةُ للقارات، التي تسابقت على اختبار آلاتها في أجساد البشر، لتُحوِّل الإبادة إلى سوقٍ مفتوحٍ للربح على مدى عامين متواصلين.
ولأنّ نوبل نفسه جسّد هذه المفارقة حين حاول أن يُعيد تشكيل إرثه بعد أن وُصِف بـ«تاجر الموت»، فأوصى بمنح جائزةً للسلام تُخفّف من أثر اختراعه للديناميت، فلا عجب أن تتحوّل الجائزة اليوم إلى وسامٍ يُمنَح باسم السلام لمن يتقن فنّ الحرب.
ولأنّنا نحيا في عالمٍ أورويليٍّ بامتياز، فإنّ عالم أورويل — على الرغم من سوداويّته المتخيَّلة والمستقبليّة — لم يكن في جوهره سوى انعكاسٍ صادقٍ لزمنه، مكسوٍّ بثوبٍ من الخيال المستقبلي.
فذلك العالم الذي تصوّره أورويل لم يكن مجرّد خيال كاتبٍ أو خوفٍ من مستقبلٍ قاتم، بل كان توصيفًا دقيقًا لواقع عصره؛ كحقيقة هذه الحقبة التي نعيشها اليوم، حيث تجاوز الواقع خيال الكاتب، وغدت نبوءته واقعًا يتكرّر بأشكالٍ أكثر تقدّمًا وأشدّ قسوة.
فتلك الحقبة كانت وليدة الفاشيّة والنازيّة، كما أنّ هذه الحقبة التي نحياها اليوم تكاد تكون اجتماعًا جديدًا لهما في نظام إبادةٍ واحد؛ نظامٍ يُعيد إنتاج أدوات السيطرة نفسها، لكن بثوبٍ أكثر تطوّرًا، وبلغةٍ أكثر تبريرًا.
في عالمٍ متقدّمٍ تكنولوجيًّا، تُعيد أنظمة الذكاء الاصطناعي تشكيل الواقع على صورتها؛ تُرينا الدمار والعمارة في رمقة نظرٍ واحدة، كأنّ الخراب والتقدّم وجهان لعملةٍ واحدة في زمنٍ فقدَ قدرته على التمييز بينهما.
في عالمٍ تُمنَح فيه جوائز السّلام لمن يُتقن فنّ التدمير، يبقى السلام الحقيقيّ في وجوه الذين لم يُكرَّموا. في مواقفٍ مثل موقف فرانشيسكا ألبانيزي، التي جعلت من القانون الإنساني سلاحًا في وجه الصمت، وفي قوافل البحر التي حملت النشطاء نحو الحصار لا نحو الجوائز، وفي صوت غريتا تونبرغ الذي صدح بالعدالة حين خفتت أصوات الدول. هؤلاء يستحقّون جائزة نوبل الحقيقية، تلك التي لم تُخلَق بعد.
أمّا نوبل اليوم، فليست سوى جائزةٍ على مقاس العالم الذي صنعها — سلامٌ على طريقة ترامب، وجوائزُ تُمنَح لمَن يُحسِن إدارة الحرب باسم السّلام.
لعلّ السلام، هو الآخر، بحاجةٍ إلى تحريرٍ قبل أن يُحتفى به.
كاتبة فلسطينية
http://nadiaharhash.com

شاركها.