لكل حراك اجتماعي أسبابه ودوافعه ، لكنها تلتقى جُلّها في كونها تعبيرا عن معانات فئات اجتماعية تولّد لديها إحساس بالحيف والتهميش ، وتنديدا بتغلغل الفساد واستشرائه في القطاعات التي تمس حياتهم اليومية ومصالحهم ؛ ذلك هو القاسم المشترك لهذه الحراكات الاجتماعية بغضّ النظر عن نوعية المطالب والشعارات التي تنادي بها.

لم يعد الكلام عن الفساد في بلادنا أمرا حكرا على فئة عمرية معينة بل تجاوزتها إلى فئات في مقتبل العمر، ذلك أن هذه الآفة التي تنخر دواليب الدولة والسياسة لها تجليات وانعكاسات على كل الفئات العمرية ، والتي لم تفلح الخطابات السياسية المُزيّفة وكل غرابيل الدنيا حجب شمس الحقيقة وتلميع واقع يتسم بتفشي الفساد ، وهذر المال العام ، كما أن التسويق السياسي والترويج لخطط العمل في مجال محاربة الفساد لم يُمكّن الحكومات المتعاقبة ببلادنا من التنصل من المؤشرات الدولية التي تضع بلدنا في اسفل الترتيب في مجال الحكامة ومحاربة الفساد مُؤكّدة على أن المغرب يعاني من رشوة نسقية تتطلب إصلاحات هيكلية جدية لمعالجتها.

ما تعرفه العديد من المدن المغربية من وقفات احتجاجية شبابية لا يشكل استثناء عن سابقاتها في كون الأصل والباعث هو الفساد ، لقد عرّى شباب “جيل Z” لغة الخشب، وكشفت احتجاجاتهم ما كان لحدّ ما مستورا بموجب السياسات العمومية للحكومة الحالية ، والتي تفنّنت طيلة هذه المدة التي تحملت مسؤولية تدبير الشأن العام ببلادنا في تدبيج خُطط العمل، وإحصائيات تنتقيها وفْق ما يخدُم مآربها السياسوية الضيقة في تجاهل تام للمؤشرات الدولية في مجالات متعددة تضع المغرب في أسفل الترتيب، وآثرت بذلك نهج سياسة صمّ الآذان؛ فتجلى الواقع كما هو، مؤلم ومُحيّر، منظومة صحية مهترئة بمؤسسات صحية عمومية والتي يقصدها أغلب الأحيان المرضى الأكثر فقرا تتفشى فيها الرشوة بشكل أصبحت شبه مؤسساتية، ومنظومة تعليمية تعاني من اختلالات بنيوية عميقة وتحديات جوهرية وتراجعات بشكل مطرد نتيجة ضعف الحكامة واستشراء اشكال الريع وهذر المال العام ، وهو ما حال دون تحقيق إقلاع حقيقي لمنظومة التربية والتكوين تمكنها من مسايرة ركب التنمية.

ما يحز في النفس ويبرهن بشكل جلي غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإيجاد حلول جدرية للاختلالات التي تعرفها مختلف القطاعات في بلادنا وعلى رأسها قطاعي الصحة والتعليم هو نهج سياسة التسويف واللجوء الى المسكنات والحلول الترقيعية من طرف الحكومة الحالية عوض العمل على اقتلاع الورم الخبيث الذي يتفشى في دواليب الإدارة المغربية والقطاعات الأساسية التي ينخرها الفساد والمحسوبية وتضارب المصالح والاغتناء غير المشروع.

إن ما تقترحه هذه الحكومة كحلول للاستجابة لمطالب شباب “جيل Z”هو شكل من أشكال الدجل السياسي ووسيلة مرحلية لا تُسمن من جوع ولا تُغني عن نقص ، طالما أن أصل الداء قائم لم يجرؤ أي من المسؤولين عن إثارته او التنبيه الى الحلول الحقيقة لمواجهة كوارث الصحة والتعليم ببلادنا المعتلة بجرثومة الفساد ، إذ أن واقع الحال يُؤكد من خلال الإجراءات التي تم تبنيها في ظل الحكومة الحالية على أن مكافحة الفساد ليس أولوية في برامجها ، بل العكس هو الصحيح ، ويتّضح ذلك من خلال تجميد الإستراتيجية الوطنية لمحاربة الرشوة التي تعتبر المحك الحقيقي لإرادة الدولة في محاربة الفساد ، وسحب مشروع القانون المتعلق بتتميم وتغيير مجموعة القانون الجنائي من مجلس النواب المُتضمّن لمقتضيات تجريم الإثراء غير المشروع ، وتعريض المبلغين عن الفساد لمتابعات قضائية بشتى التهم عوض حمايتهم ، إضافة الى تلجيم المساهمة المجتمعية في التصدي للفساد ومباشرة الدعوى العمومية في مسائل الجرائم التي تمس الممتلكات العمومية من خلال مقتضيات المادة 3 و7 من المسطرة الجنائية . إنه غيض من فيض، لا يجدي فيه نفعا سواء الدجل السياسي او كل أساليب التسويف لمحاولة تلميع واقع يؤكّد لامبالاة الحكومة فيما يتعلق بإشكالية محاربة الفساد المستشري ببلادنا.

لعل صحوة وصرخة الشباب المغربي هذه ستكون حافزا وباعثا لاتخاذ تدابير فعّالة لمحاربة الفساد ونهب المال العام، ووضع حد للإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، تُمكّن بلدنا من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية، وإقرار مجتمع تسوده قيم الشفافية والمساءلة.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.