فـي ذكــرى مــرور سنـتـين… طلال عوكل

2025 Oct,09

 

عذراً إخوتي وأخواتي، عذراً أصدقائي وأحبّائي، عذراً يا أهلي وجيراني الذين كابدوا ويكابدون أوجاعاً تفيض عن قدرة البشر، إلّا أنتم.
عذراً شوارع غزّة المليئة بالمطبّات والحفر، عذراً للمدارس والرياض والملاعب التي اختفت وتحوّلت إلى ركام من الدمار، اختلط بعظام البشر واحتضن أرواحهم.
عذراً للثكالى والأرامل، واليتامى، والجرحى، والمرضى، من الأطفال، والنساء، والصحافيين، وطواقم الدفاع المدني، والطواقم الطبّية وموظّفي وعمّال البلديات.
لا يمكن لأحدٍ مهما امتلك من قدرة البلاغة أن يصف حالكم وما أصابكم، وصفوكم وحوشاً، لا تستحقّ سوى الموت ولا شيء أقلّ من الموت، فإذا بكم نموذج للإنسان السويّ، الأقدر على قهر الظلم والعدوان، والأقدر على الصمود، والثبات، والتمسّك بالكرامة والحقّ.
لست أعذر أبداً، ولا أسامح كل من اعتلى منصّات إعلام، أو مواقع تواصل اجتماعي، يسخر من آلامكم، ويحبط معنويّاتكم ويشتهي شهرة لا يستحقها، ويقلّل من أهمية إنجازاتكم التي فاقت كلّ تصوّر أو خيال.
لطالما اعتبرت غزّة حاملة المشروع الوطني الفلسطيني منذ النكبة، لتواصل مفخرتها التاريخية في مواجهة الغزوات الاستعمارية.
غزّة هذا الجزء الصغير من أرض فلسطين، هو جزء، أيضاً، من طينة وجينات شعب، قال الكثيرون ومنهم إسرائيليون، إنه من أعظم الشعوب إن لم يكن أعظمها على وجه الأرض. شعب لا يدّعي أنه شعب الله المختار، ولا ينسب لنفسه، عظيم الأخلاق والقدرات، ولكنه يترك للآخرين، أن يصنّفوه في المكان الذي يستحق بين شعوب الأرض.
عامان على «طوفان الأقصى»، كانت باهظة الأثمان، ربع مليون فلسطيني في قطاع غزّة بين شهيد ومصاب، وأسير، يشكّلون 10% من سكّانه.
عامان من النزوح المتكرّر، لا خيمة تقي حرّاً، ولا تخفّف برداً، وجوعاً يأكل اللحم، ولا يبقي من الأجساد سوى الجلد والعظم، هي حرب إبادة يعترف بوقوعها كل العالم، وحرب تجويع وتعطيش، وحصار ومرض لكنها فصل كبير الأهمية، لمن أرادوا انتزاع حقوقهم، والحفاظ على هويّتهم وكرامتهم.
أنتم تعلمون حقّ العلم، أنّ الأوطان، لا تُستعاد إلّا بدفع أثمان باهظة، فلقد خبرتم ذلك، خلال النكبة الأولى، ومنذ ذلك الوقت حتى الآن وغداً، لن يدفع ثمن حرّيتكم وكرامتكم غيركم، وإن كنتم جزءاً أصيلاً من الأمّة العربية، ومن شعوب الأرض الحرّة، فإن هذا لا يعفيكم من أن تكونوا في الطليعة. إذا كان الشعب هو من يدفع الثمن، فإنّه الأحقّ بالحصار.
نعم، نسمع ونرى، صرخات الأُمّهات، وآهات الشباب، واستدعاء ذكريات المدارس، والملاعب، واللهو، ولكننا، أيضاً، نسمع ونرى، إصرار الناس على البقاء، وعلى التعلُّم في الخيام، وتحت الأسقف الإسمنتية المنهارة، ونسمع أغاني الشباب، واحتفالاتهم ودبكاتهم.
أنتم في الخيام البالية، ولكنكم، تتزاوجون، وتحتفلون، وتنجبون، وتدخّنون من أوراق الشجر. في غزّة، رغم كل الآلام، إلّا أنها تنبض بالحياة، وإن كانت بائسة، وتعلمون أن الموت حق وأن الفرح والخوف، والبكاء، هي من خصائص البشر الأسوياء.
إذا كان كل هذا قد أصبح معلوماً بالصورة والصوت، فإن ثمة أشياء أخرى كثيرة ومهمّة من شأنها أن تكفكف الدموع الحرّى، وتخفّف الألم وتبشر بإنسان قادر على قهر الظلم والدمار، وبناء حياة أفضل.
انظروا إلى غزّة، ماذا فعلت، وتفعل. لقد أصبح العلم الفلسطيني الأشهر على مستوى العالم كلّه، وتحوّلت غزّة إلى «الترند» الأكثر والأوسع انتشاراً.
فلسطين لم تعد تلك البقعة الجغرافية المحدودة، بل أصبحت بحجم جغرافية العالم. ثمّة من قال إن غزّة حرّرت العالم، وكسرت التابوهات «المقدّسة». لقد حرّرت غزّة العالم من الخداع الذي ساد، الدول الاستعمارية المتغطرسة، بشأن العدالة، وقيم حقوق الإنسان والديمقراطية.
شعوب كثيرة عانت حروباً، ودفعت أثماناً باهظة، بذرائع حماية حقوق الإنسان والديمقراطية. لقد فضحت غزّة، بأوضح طريقة انحياز النظام العالمي السّائد، المسؤول عن الحروب، والفقر، والتهميش، والسطو على ثروات ومقدّرات الشعوب، التي جرى تأبيد تخلّفها وفقرها.
وفضحت غزّة وأطاحت إلى غير رجعة السردية الصهيونية، التي سادت لعقود طويلة، وسقطت معها، فزّاعة اللاسامية، التي تمّ توظيفها لقمع كل شخص أو حركة تغرّد خارج سرب الصهيونية وسرديتها.
حرّرت غزّة الرأي العام العالمي، في الولايات المتحدة، الداعم الأكبر والدائم لدولة الاحتلال، ويطالبون إدارتهم بالتوقّف عن تقديم السلاح لها. أوروبا الغربيّة، التي أسّست بعض دولها، المشروع الصهيوني، شهدت تحوّلات عميقة وواسعة على مستوى الرأي العام، ما ترك أثراً على سياسات الحكومات القائمة، التي وقفت إلى جانب دولة الاحتلال في بدايتة الحرب العدوانية.
غزّة، أيضاً، حرّرت قطاعات واسعة من يهود العالم، الذين خرجوا يندّدون بسياسة دولة الاحتلال، وحروب الإبادة والتجويع التي تشنّها على القطاع، اليس عظيماً أن تشاهد اليهود الأميركيين والأوروبيين وهم يحملون العلم الفلسطيني، ويهتفون بحرّية فلسطين.
هل كان أحد يتوقّع هذا «التسونامي»، الدبلوماسي السياسي، الذي أرغم أهمّ حلفاء دولة الاحتلال التاريخيين على الاعتراف بدولة فلسطين، وإعلان الالتزام بالعمل من أجل «حلّ الدولتين»؟
إن كان الفلسطينيون يعانون أشدّ المعاناة، من أجل كرامتهم وحقوقهم المشروعة فإن عليهم أن يستمدّوا من أساطيل الحرّية، ومن إجماع مؤسّسات الأمم المتحدة وخبرائها، ومؤسّسات العدالة الدولية، عليهم أن يستمدّوا كثيراً من الأمل، والإنجاز.
دولة الاحتلال هي الأخرى، تعاني أشدّ المعاناة، لا سبيل لملاحقة اعترافات كتّاب، وصحافيين، وكذلك مسؤولين سياسيين وأمنيين، الذين يعترفون بما أصاب كيانهم المحتل.
يختصر زعيم «المعارضة» الإسرائيلية الأمر، حين يعترف مؤخّراً أن كيانه يعيش أزمةً سياسية وأمنية واقتصادية رهيبة.
 لا مجال للحديث عن أرقام حجم الخسائر الإسرائيلية والوضع الذي وصلت إليه على مختلف الصعد، ويكفي أن يعترف بنيامين نتنياهو، المطلوب لـ»الجنائية الدولية»، الذي يقود «التايتانيك» أن كيانه الكولونيالي يعيش عزلة رهيبة، وهذا ما جنته يداه.

شاركها.