أمد/ “نحنُ نجدّد في الشعر،لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد،نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا،أو قُل تجدّدنا” (الشاعر اللبناني الراحل يوسف الخال)

 

تصدير: ليس الشعر أن تقول كل شيء،بل أن تحلم النفس بكل شيء سانت بوف

 

حين قرأت هذه القصيدة عالية الجودة فنا وأسلوبا،استوقفني العنوان بما يحمله من دلالات وايحاءات تزاوج بين الوضوح والغموض بأسلوب فني،غير مألوف،”فالتلال الغائمة” تحمل دلالة الانزياح والغموض الباعث على الدهشة ” و” الإستغراب”فالتلال عادةً واضحة المعالم،لكن إضافتها إلى “غائمة” يخلق صورة شعرية توحيكما أسلفتبالحلمية والانزياح عن المألوف.

 القصيدة تبدأ باستدعاء حرف “الكاف” كرمز مركزي،مما يخلق عالماً من الإيحاء والانزياح الدلالي.فهذا الحرف “الكاف” بقدرة الشاعرة ومهارتها الفنية يتحول إلى كيان شعري له حضور سحري: “يا كاف إننيى بسحر الكاف هائمة”

   · حرف “النون” يظهر في نهاية القصيدة ككائن شادي: “والنون فيها بألحان الثرى شادية”

 في هذا السياق،تتجلى مهارة الشاعرة في التلاعب”الممتع”بالكلمات والرقص المبدع على الحروف،هذا الانزياح بالحروف من وظيفتها النحوية إلى دلالتها الشعرية يخلق عالماً أسطورياً،نراه مترعا برمزية الطبيعة الخلابة ” التلال،المرج،الضبي،السواقي،العشب،الهطلكلها عناصر طبيعية تتحول إلى كيانات حية مشاركة في المشهد الشعري،وإثراء المعنى  في ذات الآن..فمن خلال استكشاف العلاقة بين الكلمات والمعاني التي تشير إليها،وتنوع هذه الدلالات تشمل المطابقة (اللفظ يدل على كامل معناه)،والتضمن (اللفظ يدل على جزء من معناه)،والالتزام (اللفظ يدل على معنى لازم له لكنه خارج عنه).أما بخصوص البناء الفني للقصيدة فقد تجلت بين ثناياه صور شعرية،على غاية من الجمال إذ نلاحظ صورا لا تخطىء العين نورها وإشعاعها من قبيل الصورة البصرية: “البصر مني زائغة”، “الضبي في عمق الخيال شارداً” الصورة الحسية: “عقارب الساعة لاذعة”

ثم الصورة السمعية: “السواقي تنظم ألحاناً جائرة..وهي صورة تربك المتلقي،وتداعب في ذات الآن ذائقته الفنية،فالألحان الجائرة”جمع بين الموسيقى العذبة والجور الجارح في صورة فنية مبتكرة،لم أعهدها عبر مسيرتي النقدية التي تجاوزت أربعة عقود من الزمن البحثي..

القصيدة تحمل رؤية وجودية للشعر كخلاص من فراغ الوجود،فهي تترجم بصدق فني العلاقة بين الذات الشاعرة والعالم فتتحول من العلاقة الواقعية إلى العلاقة الشعرية الأسطورية·أما الانزياح بالحروف إلى كيانات شعرية،فهو يمثل محاولة لإعادة خلق اللغة والعالم.

وقبل أن أختم أشير إلى أن قصيدة”تلال غائمة” تمثل نموذجاً للشعرية الحديثة التي تزاوج بين:

 الأصالة في استخدام الرموز التراثية (الهيام، الطلل) و المعاصرة في الانزياحات الدلالية والصور

بمعنى تحويل اللغة من أداة اتصال إلى فضاء للوجود والحلم..

هذه القصيدة تثبت أن الشعر الحقيقي هو ذلك القادر على تحويل الحروف إلى كائنات،والطبيعة إلى مملكة شعرية،والذات إلى كونٍ من الشوق والجمال.

تقول الشاعرة التونسية القديرة أنعيمة المناعي:

 

تلال  غائمة 

 

وقصائد   على وتر  القصائد راتلة 

يا كاف  إننيى بسحر الكاف هائمة

 

يطوقني  مرجهاوالبصر  مني زائغة

أهيم بصبحها وئيدة الخطو كاظمة

 

والضبي في عمق  الخيال  شاردا

أراه قربي وعقارب الساعة  لاذعة

 

كم شدونا على التلال …  العالية

وكتبنا عبر  الأثير  رسائل  مارقة

 

أرى الكاف من فرط الهيام غائمة

والسواقي، فيها تنظم ألحانا جائرة

 

يا   ليت  هطلا  ينزل  بك  لتعمري 

قلوبا  باتت   في  الفراغ   عائمة 

 

تبعث  قصيدة  الكاف علوا   رابية 

 والنون فيها  بألحان  الثرى ،شادية 

 

فيبزغ العشب ،غضا  من تلالهاسامقا

ويغمر الهطل جبالها  الملوحة ،الغائرة …

 

بقلم نعيمة مناعي

 

 

تنتمي الشاعرة التونسية القديرة أنعيمة المناعي  إلى جيل الرواد في الشعر التونسي الحديث، وشعرها يتسم بالعمق الفلسفي والانزياح اللغوي والبحثأحياناعن الهوية بين شظايا اللغة الشعرية البديعة،وتناثرات الكلام الجميل.وتقوم قصيدة “تلال غائمة” على استعارة مركزية تمثل العالم الداخلي للمرأة،حيث تتحول المشاعر والأفكار إلى مشهد طبيعي غائم ومتداخل.وقد لاحظنابعين بصيرةأن العنوان نفسه (“تلال غائمة”) هو استعارة كبرى للحالة النفسية.التلال ترمز للثبات والرسوخ (ربما الذات أو الأحلام)، بينما “غائمة” تشير إلى الغموض والقلق وعدم الوضوح.هذا التناقض بين ثبات التل وعدم وضوح الغيم يخلق إحساسًا بالتوتر منذ البداية.وقد أبدعت الشاعرة في استدراج المتلقي إلى مربعالسهل الممتنعدون تكلف أو تعقيد..

ختاما أقول: هذه القصيدة تثبت أن الشعر الحقيقي هو ذلك القادر على تحويل الحروف إلى كائنات،والطبيعة إلى مملكة شعرية،والذات إلى كونٍ من الشوق والجمال..

وخلاصة القول،قصيدة ” تلال غائمة” للشاعرة التونسية القديرة أنعيمة المناعي،ذات تكثيف شديد وتلميح اشد،حيث تكون فيها مساحة المُصرَّح به أقل بكثير من مساحة المسكوت عنه، وفى هذا النوع من القصائد يحيل الشاعر (ة) المتلقي بإعمال فكره واستخدام كل مهاراته الثقافية والأدبية واللغوية لفك طلاسم هذه القصيدة،وقصيدة من هذا القبيل تعتبرفي تقديريقصيدة المثقفين ولا يمكنلأنصاف المثقفينأن يتعاملوا معها أو حتى يستمتعوا بها.

وأرجو أن لا أكون قد بالغت..أو جانبت الصواب..

كلمة الختام : شكرًا لك صديقتنا وشاعرتنا الفذة أنعيمة المناعي على روعة النص وجمال اللفظ والتعبير والمحسنات البلاغية ورقي الابداع،وبانتظار المزيد مما يجود به القلم وتتفتق به القريحة والخيال الشعري الخصب،مع خالص التحيات.

 

 

 

شاركها.