
القاتل والسلطة: كيف صنع نظام الانقاذ آلة الموت في دارفور
عصام عباس
دعوني أبدأ بما روته رئيسة محكمة الجنايات الدولية، البريطانية جوانا كورنر (Joanna Korner)، وهي تسرد مشهدًا يختزل المأساة التي عاشها أهل دارفور، مشهد يفوق في فظاعته أكثر أفلام الرعب في هوليوود. قال أحد الشهود أمام المحكمة:
“كانت النساء تغتصب امام الجميع، الزوجة امام زوجها، والبنت امام ابيها، والأخت امام اخيها، والام امام ابنها. لم يكن يُسمح لنا بالذهاب إلى مراكز الشرطة للإبلاغ عن حوادث الاغتصاب التي طالت بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا. لم تكن هناك جهة تستمع إلينا أو تعترف بإنسانيتنا. نحن أبناء الفور كنا نُعامل كالحشرات”.
هذه الشهادة ليست حالة معزولة، بل هي مرآة لنظامٍ كامل أطلق آلة القتل والترويع باسم “القضاء على التمرد”. فبعد هجوم حركة تحرير السودان (SLM/A) على مطار الفاشر في ٢٥ أبريل ٢٠٠٣، اجتمع مجلس الأمن القومي برئاسة البشير وأصدر في ١٨ ديسمبر من العام نفسه قرارا بإطلاق حملة شاملة أطلقوا عليها “الحملة القومية للقضاء على التمرد”.
تكوّنت القوات المشاركة من جميع التشكيلات النظامية يومذاك، ثم التحقت بهم ميليشيات الجنجويد البذرة التي صارت لاحقا الدعم السريع بخيولهم وجمالهم وسلاحهم وحقدهم. هنا بزغ نجم أحمد هرون، الذي كُلّف بالإشراف الميداني والديواني على الحملة، ليتحول إلى أحد أبرز مهندسي الإبادة في دارفور.
قد يتساءل البعض: ما علاقة الحكومة بجرائم علي كوشيب التي اعترف بها بنفسه؟ في تقديري، هذا السؤال عبثي وساذج، لأن كوشيب لم يكن بعيدا عن الدولة بل جزءا من منظومتها الأمنية. فقد استعرضت المحكمة الجنائية الدولية عشرات الوثائق ومثلها شهادات الشهود التي تؤكد أن كوشيب كان يتحرك تحت مظلة رسمية منذ عام ٢٠٠٣، إذ كان يرافق أحمد هرون وعلي كرتي في جولاتهم الميدانية، ويلقي خطبًا جماهيرية بصفته “قائد الجنجويد”، معرفًا بهم على أنهم قوات حكومية جاءت لحماية المواطنين وممتلكاتهم وممتلكات الدولة.
لم يكن ذلك مجرد تنسيق عفوى، بل كان تفويضا رسميا. فقد أثبتت المحكمة أن الوزير هرون كان يسلّم كوشيب الأموال المخصصة للجنجويد لتوزيعها بنفسه، وأنه أصبح القائد المعتمد ميدانيا وإداريا عن تلك الميليشيات. كما كشفت الوثائق الحكومية عن خطابات من جعفر عبد الحكم، معتمد وادي صالح انذاك، إلى السلطات المحلية تطلب منها توفير الغذاء لخيول الجنجويد على نفقة حكومة السودان. ولم يتوقف الأمر عند الدعم اللوجستي، بل حين أعلنت الحكومة ما سُمّي بـ”النفرة العامة” في دارفور، كُلّف علي كوشيب برئاسة لجنة إعداد المجاهدين وزُوّد بالأسلحة والأموال لتوزيعها كيفما يشاء على قواته.
لا يختلف اثنان، الا أصحاب الغرض، ان جرائم كوشيب في دارفور ليست فعلا فرديًا، بل تمت بالمشاركة والاتفاق والتحالف بين الدولة والجنجويد، حيث تحولت مؤسسات الدولة إلى غطاءٍ سياسي وعسكري لجرائم الإبادة والتطهير العرقي.
إن محاكمة علي كوشيب في لاهاي ليست محاكمة لرجل واحد، بل إدانة صريحة لنظام جعل من القتل والترويع سياسة رسمية.
المصدر: صحيفة التغيير